تجليات الهوية: رحلة بين ثراء التنوع وتحديات العصر

     في عصر يتميز بالتحولات السريعة والتداخل الثقافي الواسع، تصبح الهوية الثقافية للإنسان والتنوع المجتمعي، ساحة للبحث والاستكشاف الفلسفي والبحث العميق المفضي لغيابات المعرفة، في غياب تام للخطوط المرجعية للإنسان وتصبح إعادة النظر ما أمكن في الأجوبة التي نقترحها ضرورة حتمية، وليس كل الهم المعرفي في الأسئلة التي نطرحها.

  لطالما كانت الهوية الثقافية مفهومًا عميقًا ومعقدًا يتراوح بين الثوابت والمرونة، “حقيقة لا تحددها الغريزة، ولا تسوغها الفطرة، تشترك في تكوينها مجموعة كبيرة من العوامل”[1] فهي تجسد الجوهر الدائم للأمم والشعوب، وفي الوقت نفسه تحمل بصمات الزمن وتحولات العصر. هنا يظهر الإشكال المركزي: كيف يمكن للهوية الأولى أن تحافظ على ثباتها، وجوهرها الأصيل بينما تتفاعل مع موجات العولمة والتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة؟

تتداخل أسئلة الوجود والهُويّة والذات، لتعكس تجاذبًا بين القديم والحديث، التقليدي والمعاصر، الورقي والرقمي.. وتبرز الهوية الثقافية، كرحلة في عبقرية الإنسان في التنوع والتطور، لتُعبر عن ثراء التجارب الإنسانية وأصالتها، في مواجهة التحديات الحديثة التي تفرضها التكنولوجيا، والانفتاح الاقتصادي والاجتماعي. في هذه الورقة، سنغوص في هذا المنهج الفلسفي الإنساني، مستعرضين كيف يمكن لهذا الفهم العميق للهوية الوطنية، أن يشكل منارة للحفاظ على التنوع الثقافي في وجه التحولات العصرية.

   تمثل الهوية الثقافية حجر الزاوية في الحضارة الإنسانية، وتعكس النسيج المتنوع من التقاليد والمعتقدات والعادات التي تشكل المجتمعات في جميع أنحاء العالم. وفي عصر العولمة الحديث والتقدم التكنولوجي، اتخذ مفهوم الهوية الثقافية أبعادًا جديدة، متحديًا المفاهيم التقليدية للتراث الوطني والوحدة الوطنية.

  إن احتضان التنوع الثقافي والقبول به كفكرة، والاسهام بكل فاعلية في مد جسور الحوار والتفاهم والتضامن، في إطار التكامل بين الكونية والخصوصيات الثقافية، يثري المجتمع من جوانب عدة من خلال تعزيز نسيج نابض بالحياة، من وجهات النظر والأفكار. وبالتالي توفر الثقافات المختلفة طرقًا فريدة لرؤية العالم، وتقدم رؤى وأساليب جديدة لحل المشكلات. لكن هل تؤدي التحولات التي نعيشها اليوم مع كل هذا الغزو الثقافي الرقمي الجديد إلى اندثار الخصوصيات الثقافية؟

  إن التنوع الثقافي يغذي الإبداع والابتكار من خلال تشجيع التلاقح بين الأفكار والممارسات. يقول الدكتور رضوان السيد في سياق حديثه عن الهوية الثقافية: “إن العبقرية اللسانية العربية هي جوهر العبقرية العربية ذاتها باعتبار اللسان حاملاً لكل مكونات الهوية”[2] وعندما يتعاون أفراد من خلفيات ثقافية متنوعة، فإنهم يجلبون ثروة من الخبرات والمعرفة إلى الطاولة، مما يؤدي إلى تحقيق اختراقات وتميزات في مختلف المجالات، سواء عن طريق اللغة أو غيرها، كما أن التفاعل مع الثقافات المتنوعة يعزز التفاهم والتسامح بين الناس. ومن خلال التعامل مع أفراد من خلفيات ثقافية مختلفة، يمكن تفكيك الصور النمطية والأحكام المسبقة، وتعزيز مجتمع أكثر شمولاً وانسجامًا.

أن الهوية الثقافية تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل المجتمعات، وتحديد الأفراد، وربط الناس بتراثهم. لكن الجدل حول التنوع الثقافي والحفاظ عليه في مواجهة التحولات الحديثة هو حوار معقد، حيث تدعم الحجج كلا الجانبين، فعندما تتفاعل الثقافات المختلفة، فإنها تتبادل المعرفة والمعتقدات والتقاليد واللغات، وربما كانت التعددية اللغوية أحيانا فخًا جديدًا لتمزيق الهوية الوطنية مما يؤدي إلى بوتقة، ينصهر فيها الإبداع والابتكار مرة، ومرات عدة الركون إلى ثقافات هجينة..، يمكن للتنوع الثقافي أن يمهد الطريق لمجتمع أكثر شمولا، حيث يشعر الأفراد من جميع الخلفيات بالتقدير والتمثيل. ومن خلال احتضان التنوع الثقافي، يمكن للمجتمعات أن تكسر الحواجز وتحتفل بثراء التعبير البشري، على الجانب الآخر، يؤدي التنوع الثقافي في بعض الأحيان إلى صراعات وسوء فهم بسبب الاختلافات في الممارسات والمعتقدات.

   في المجتمعات المتعددة الثقافات، قد تنشأ الصدامات عندما تتعارض معايير ثقافة ما، مع معايير ثقافة أخرى، مما يؤدي إلى التوترات والانقسامات. على سبيل المثال، قد تؤدي الاحتفالات أو الطقوس الثقافية التي يساء فهمها من قبل الآخرين إلى تغذية الصور النمطية والمفاهيم الخاطئة. وبالتالي، فرغم أن التنوع له قيمة كبيرة، فإنه يتطلب أيضًا التلاقح الثقافي المرن، لضمان عدم تصاعد الاختلافات إلى صراعات تقوض التماسك الاجتماعي.

   يعد “الحفاظ على الهوية الثقافية أمرًا ضروريًا للحفاظ على التراث وتعزيز الشعور بالانتماء بين الأفراد والمجتمعات”[3] تشكل الهوية الثقافية الطريقة التي ينظر بها الناس إلى أنفسهم ومكانتهم في العالم، مما يوفر إحساسًا بالاستمرارية والارتباط بجذورهم. ومن خلال تكريم وحماية التراث الثقافي، يمكن للمجتمعات ضمان انتقال التقاليد واللغات والعادات عبر الأجيال، مما يخلق شعورا بالفخر والاستمرارية. على سبيل المثال، تعطي مجتمعات السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم الأولوية للحفاظ على هويتهم الثقافية كوسيلة لحماية تراثهم والحفاظ على أسلوب حياتهم المتميز.

وهذا الصدام بين الحفاظ على الهوية الثقافية والالتزام بالمعايير المجتمعية المتطورة يمكن أن يخلق توترات داخل المجتمعات ويعوق التنمية الاجتماعية. ولذلك، فإن تحقيق التوازن بين تكريم التراث الثقافي وتبني التغييرات الضرورية، أمر ضروري لضمان بقاء الهوية الثقافية ذات صلة وشاملة في عالم سريع التغير.

سؤال الهوية الوطنية وتحديات العولمة:

    تواجه الهوية الوطنية اليوم تحديات غير مسبوقة نابعة من ثورة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. تنطوي هذه التحولات على تبديل حقيقي في طريقة تفاعل الأفراد مع بعضهم بعضًا ومع العالم، مما يطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن للهوية الوطنية أن تظل صامدة في مواجهة هذا التغيير الواسع والشامل؟

   يرى الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي «أنه يجب التركيز على العقلانية والتجدد لمواكبة التغيرات، مع الحفاظ على الهوية الوطنية “[4] وذلك لدورهما الحيوي في مواجهة التحولات السريعة والمعقدة في العالم المعاصر. وأن العقلانية هي القدرة على التفكير بشكل منهجي ونقدي، مما يسمح للأفراد والمجتمعات بتفسير وفهم التغيرات بطريقة منطقية واتخاذ قرارات مستنيرة، والتأقلم مع واقع الحياة المتغير والمضطرب.

   أما التجديد هنا فيشير إلى المرونة والانفتاح على الأفكار والتقنيات الجديدة، مما يمكّن المجتمع من التكيف مع التغيرات والابتكار في مواجهتها. وعليه تتشكل الهوية الوطنية فهي بالنسبة للجابري، ليست كيانًا ثابتًا وإنما هي بناء ثقافي واجتماعي يسهم فيه الأفراد والمجتمعات بشكل مستمر. الهوية الوطنية يجب أن تكون ديناميكية ومرنة بما يكفي لاستيعاب التغيرات، ولكن دون فقدان جذورها الأساسية. ولهذا تنبثق علاقة الهوية الثقافية واللغوية بالوطن.

الذكاء الاصطناعي وتضارب القيم:

   تنعكس تأثيرات الذكاء الاصطناعي على مختلف مجالات الحياة، من التعليم إلى الصحة، ومن الاقتصاد إلى الاتصالات.. “والتي ستطال نهاية الأمر الثقافة والفكر والقيم الإنسانية…وبالتالي بناء الإنسان وشخصيته وهويته وتكوينه الثقافي والفكري والقيمي”[5]. بيد أن هذا التقدم المذهل يمكن أن يؤدي إلى تضارب مع بعض القيم الإنسانية الأساسية مثل الخصوصية، والأمان، والعدالة، وحتى القيم الثقافية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تُجمع وتحلل كميات هائلة من البيانات الشخصية لأغراض متعددة، مما يشكل تهديدًا للخصوصية الشخصية.

    ولهذا يتوجب علينا التفكير في كيفية تحقيق توازن بين الاستفادة من تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وحماية القيم الإنسانية، هنا يأتي دور القوانين والتشريعات والإرشادات التي تضمن أن تكون هذه التكنولوجيا في خدمة الإنسانية وليس العكس.

سبل الحفاظ على الهوية الوطنية:

توجد عدة طرق يمكن من خلالها الحفاظ على الهوية الوطنية في ظل تحديات العصر الرقمي، والتي تشمل:

  1. التعليم الثقافي الرقمي: من الضروري “دمج تعليم القيم الثقافية والتاريخ الوطني في المناهج الدراسية عبر الوسائل الرقمية، مما يتيح للأجيال الناشئة التعرف على تراثهم الوطني بصورة تتوافق مع التطورات التكنولوجية”[6]

حيث أصبح من الممكن تقديم محتوى تعليمي شامل ومتنوع باستخدام الوسائط الرقمية مثل الفيديوهات التفاعلية، والنصوص المدمجة بالصور، والجولات الافتراضية للمعالم التاريخية. مما يجعل التعلم أكثر تفاعلاً وتشويقًا، ويحفز الطلبة على استكشاف تاريخهم وثقافتهم بأنفسهم. على سبيل المثال، يمكن للطلبة توطيد علاقتهم بالإعلام الثقافي، وزيارة متاحف افتراضية ومشاهدة القطع الأثرية بصور ثلاثية الأبعاد، والتفاعل مع قصص تاريخية تمثل الثقافة الوطنية عبر الألعاب التعليمية والمحتويات التفاعلية.

  • التنسيق في تنظيم وسائل الإعلام والبرامج الثقافية:

تُعد الشراكات والتعاون الدولي بين الدول العربية في مجال الحفاظ على الهويات الثقافية من الأمور المهمة لتعزيز الروابط الثقافية وصون التراث المشترك، ومن بعض الأمثلة الحية لهذه الجهود “برنامج ذاكرة العالم” لمنظمة اليونسكو، حيث يوفر هذا البرنامج منصة للتعاون بين الدول العربية للحفاظ على التراث الوثائقي المهم والمهدد بالضياع، وبالتالي من خلال تسجيل هذه الوثائق التاريخية ذات الأهمية العالمية، تسهم الدول العربية في حماية تاريخها المشترك وبالتالي حماية هويتها الثقافية.

  • البحث العلمي المشترك:

   تشجيع الأبحاث المشتركة حول “تأثير التكنولوجيا على الهوية الثقافية” يمكن أن يكون أيضًا ذا جدوى كبيرة، من خلال إدخال جامعات ومؤسسات بحثية من دول مختلفة في تعاون علمي، يمكن دراسة تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمعات والثقافات بشكل أعمق، مما سيساعد في ابتكار حلول تستند إلى الأدلة. ومن الأمثلة الحية في الساحة على التعاون الدولي الناجح نجد منظمة *اليونسكو*: التي تكافح لحفظ التراث الثقافي العالمي من خلال العديد من المبادرات الدولية، والتي تشمل تنظيم الممارسات الثقافية الإلكترونية وتشجيع الدول الأعضاء على تبني استراتيجيات تحمي الهوية الثقافية.

 الخاتمة:

ندرك أن الهوية الثقافية ليست مجرد تمسك بالموروثات والتقاليد، بل هي تفاعل حي مستمر بين الماضي والحاضر، بين التجديد والاستمرار. إن تعزيز الهوية الوطنية والثقافية يتطلب منا تبني استراتيجيات تعليمية متطورة تستفيد من قوة التكنولوجيا وتوجهات العصر، لتحقيق توازن بين الأصالة والتطور. ويكمن تحدينا في الحفاظ على جذورنا الثقافية، وتعزيزها في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية. لذلك، يجب أن نكون على استعداد دائم لمواجهة تحديات العصر الحديث بعزم وثقة وفهم عميق لقيمنا ومعتقداتنا، يقول ابن خلدون “يعلم الجميع أن أعز أراضي الإنسان هي تلك التي ولد فيها، وأحب الأوطان إليه هي تلك التي نشأ فيها، ويفضلها كيفما كان مهوى صباه على ما سواه”[7] بهذا فنحن نحمل مسؤولية تاريخية يجب علينا تحملها بكل فخر وإصرار. فلنستمر في استكشاف عبق الثقافات ونحارب تحديات العصر بشجاعة وبصمة تبنى عليها الأجيال القادمة.

المراجع:

ابن خلدون، عبدالرحمن. (2006). المقدمة، الجزء الثاني. سوماكرام.

الجابري، محمد عابد. (1982). تكوين العقل العربي، سلسلة نقد العقل العربي.

الجاسمي، عبدالله محمد. (2022). كلمة العدد. مجلة الثقافة العالمية (209).

رضوان، السيد. (2000). هل تمهد الهوية الثقافية الطريق للوحدة السياسية العربية؟

عبدالملك: مرتاض. (2000). التعددية اللغوية فخ جديد لتمزيق الهوية الوطنية. مجلة العربي (305).

العنزي، تغريد بنت ضاوي (2022). التعليم الرقمي في الوطن العربي

مرسي، أحمد. (2013). الهوية الثقافية: ماهيتها وخصائصها. المجلة العربية للعلوم الإنسانية. 31.


[1] مرسي أحمد الهوية “الثقافية: ماهيتها وخصائصها”- ص 2 المجلة العربية للعلوم الانسانية 2013 عدد خاص المجلد 31 

[2] السيد رضوان “هل تمهد الهوية الثقافية الطريق للوحدة السياسية العربية؟ ” الصفحة 20 مجلة العربي- العدد 305– أكتوبر 2000

[3] مرتاض عبد الملك “التعددية اللغوية فخ جديد لتمزيق الهوية الوطنية” الصفحة 28 مجلة العربي- العدد 305- أكتوبر 2000

[4]  الجابري محمد عابد ” تكوين العقل العربي” ص. 115 سلسلة نقد العقل العربي- 1982

[5] الجاسمي عبد الله محمد” كلمة العدد” الصفحات 4- 5 مجلة الثقافة العالمية العدد 209-يونيو 2022

[6]  العنزي، تغريد بنت ضاوي شمروخ “التعليم الرقمي في الوطن العربي: تحديات وآمال*. ص.303 بتصرف -نونبر 2021

 كتاب أبحاث المؤتمر الدولي الثاني لمستقبل التعليم الرقمي في الوطن العربي ج.2 مكتبة التنوير

[7] ابن خلدون عبد الرحمن، “المقدمة” الصفحة 26- الجزء الثاني- دار نشر سوماكرام- 2006

وضيحة الجملي

كاتب بمجلة إشراق العمانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *