التعليم قبل المدرسة ودوره في الحفاظ على مستقبل الهوية الوطنية في ظل التحولات العالمية

“نرصد التحديات التي يتعرض لها المجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقية والثقافية ونؤكد على ضرورة التصدي لها ودراستها ومتابعتها؛ لتعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهُوية الوطنية والقيم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتجاهات الفكرية السلبية، التي تخالف مبادئ ديننا الحنيف وقيمنا الأصيلة وتتعارض مع السمت العماني الذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنية“. بهذه الكلمات السلطانية السامية لفت جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه – أهمية قيام المؤسسات المعنية بالحفاظ على الثقافة الوطنية ليتسلح الشباب العماني بها في حاضره ومستقبله.
إن التنشئة الاجتماعية مسؤولية مشتركة في المجتمعات منذ بدأ الانسان يُكوّن هذه المجتمعات ويتجانس مع أفراده، فابن خلدون أكد دومًا أن: ” الإنسان مدني بطبعه”، وصفة هذه المدنية تعني التأثير والتأثُر بمحيطه، وفي عصر المعرفة اللامحدودة اليوم أصبحت المسؤولية أكبر وأثقل.
فالأسرة اليوم تَغيّر تكوينها وتغيّرت أدوارها مع خروج الأمهات للعمل في مهن مختلفة، وهذا حراك طبيعي مع تطور المجتمعات والمستجدات التي شهدها العالم بدءا من الثورة الصناعية وما تلاها، جميع هذا حتّم ظهور مؤسسات تنشئة أخرى مساندة للأسرة في أداء عملها كديار الرعاية اليومية للأطفال، ومن ثم ظهرت مؤسسات التعليم المبكر ما قبل المدرسي مقابل مدارس الكتاتيب قديمًا، ليصل الأطفال لمراحل التعليم الأساسي وقد مر بعدة مؤسسات تنشئة تربوية متعددة. ومن هنا يأتي هاجس أهمية انتقاء من يقوم بهذا الدور في هذه المؤسسات؛ فالعلم في الصغر كالنقش على الحجر كما يقول العرب، ومن ثم التركيز على المناهج المقدمة لهم بحيث تستمر في أداء أدوارها المعززة لركائز المواطنة الثلاث (الدين – اللغة – التاريخ).
أما عن ترسيخ مفاهيم الهوية الوطنية وأبعادها على الأطفال فهو أمرٌ يجب أن يخضع لقوانين واستراتيجيات تضمن ذلك، فمن تعليم الأطفال مفاهيم الحقوق والواجبات، وتعليمهم القيم الإنسانية، وترسيخ الانتماء للوطن إلى غرس تاريخ الوطن والثقافة الوطنية، وتنمية التفكير النقدي والمشاركة المجتمعية أو ما يسميه بعضهم المسؤولية الاجتماعية. قد تبدو هذه المفاهيم (ثقيلة) على فهم الأطفال في مراحل ما قبل المدرسة – كما يراها بعضهم – لكن تقديمها بما يتناسب والمرحلة العمرية مرهون بقدرة الكادر التعليمي على القيام بهذه المهمة، ولهذا أكدنا في بداية هذا المقال على أهمية تأهيل القائمين بهذه المهمة على أرفع المستويات.
إن هذه المفاهيم والركائز لا ترتبط بمنهج وكتاب مطبوع بصورة فارهة يكلّف الأهالي والمدرسة المبالغ الطائلة، بل على الدول الإيمان بأن هذا النوع من التعليم حق للأطفال وفق التطورات الاجتماعية والتغيرات العالمية، وبالتالي تقديمه للجميع مهم لبناء المجتمعات، فهذه الأعمار الصغيرة تختلف عن أطفال المرحلة التأسيسية الأولى في نظام التعليم العام، ويجب التعامل معها بناء على هذا، فهذه المرحلة العمرية هي مرحلة التعلم بالاكتشاف، والتعلم باللعب، والتعلم بالقدوة. ففي عام 1837م قام العالِم الألماني فروبل بإنشاء الحضانات كتجربة اجتماعية للأطفال لانتقالهم من المنزل للمدرسة، وتعامل فروبل مع الأطفال كالنباتات بحيث يجب رعايتها والاعتناء بها يوميًا، ولهذا خلص ليقول: ” يجبُ أن يعيش الطّفل في البيئة بصورتها الحيّة، يلاحظ كلّ كبيرة وصغيرة تدور من حوله، وأن يجد فيها ما يقوّي عزمه ويصقل نفسه، ويؤهّله ليؤدي دوره كفرد قائم بذاته وكفرد في المجتمع.. ولن يحصل ذلك إلا إذا كان الطّفل في بيئة بها مجال واسع للملاحظة والتجريب، ولن يتوفر ذلك إلاّ في وسط طبيعي يتمثل بحديقة تضم فناءً واسعًا تتوفر فيه كلّ أسس رياض الأطفال”. وإن كان فروبل ابتدأ هذه التجربة في القرن التاسع عشر الميلادي فقد عُرف عن المكيين منذ ما قبل الإسلام اهتمامهم بالتنشئة الأولى لأبنائهم فكانوا يرسلونهم إلى البادية للحفاظ على لسانهم العربية ولتعليمهم الثقافة العربية الأصيلة ليعودوا حينما يشتد عودهم إلى مكة حيث تختلط الأجناس والثقافات بسبب التجارة ومواسمها. ثم ظهر المسجد في الإسلام كمؤسسة لتنشئة الأبناء وترسيخ اللغة والدين والقيم فيه.
إن التطور والتقدم أمر حتمي في المجتمعات الحيّة وهو ما يقود لأهمية التجديد والتطوير في النظرة إلى المؤسسات التعليمية كمؤسسات مهمة في التنشئة الاجتماعية للأجيال، وبالتالي لا بد أن يطال التجديد هذه المؤسسات وهياكلها وكيفية تعامل الحكومات معها، فالتعليم هو الطريق الواضح لتنظيم المجتمعات وتقدمها بطريقة تخدمها، وتخدم مصالحها وأهدافها الوطنية، ومنها الحفاظ على مكانها وهويتها الوطنية في عصر تتدافع فيه الثقافات والأفكار لتغيير الهويات الوطنية في مناطق مختلفة من العالم اليوم.