مُستقبل الهوية الوطنية في مُجتمعات “الميتافيرس”

“الميتافيرس” تقنية حديثة ومتقدمة في العالم الرقمي، تهدف إلى تغيير وتحسين الطريقة التي نتفاعل بها عبر شبكات التواصل ومحيطنا الرقمي. وهي قيد التطوير المستمر، حيث تسعى هذه التقنية إلى إنتاج مفاهيم وقيم رقمية جديدة تُمكّن الأفراد من التواصل والتفاعل مع بعضهم بعضًا بطرائق غير مسبوقة عبر العوالم الافتراضية (عبد التواب، 2022). وتعمل “الميتافيرس” على بناء عوالم رقمية تتكامل فيها عناصر الواقع الحقيقي مع الواقع الافتراضي، مما يخلق تجارب رقمية ثلاثية الأبعاد مذهلة.
في هذه العوالم الافتراضية، يمكن للمستخدمين التفاعل والمشاركة في العديد من الأنشطة المتنوعة. تشمل هذه الأنشطة التعليم والتعلم والتدريب، حيث يمكن للمعلمين تقديم دروس تفاعلية وتوفير بيئات تعليمية غنية بالمعلومات والتواصل. كما يمكن للطلبة التعاون مع زملائهم من مختلف أنحاء العالم، مما يعزز من فرص التعلم والتفاعل الثقافي (Soroko, 2022). بالإضافة إلى التعليم، تتيح “الميتافيرس” فرصًا هائلة للتواصل الاجتماعي والترفيه، حيث يُمكن للأفراد حضور فعاليات افتراضية مثل المؤتمرات والندوات، والتفاعل مع أصدقائهم وزملائهم في بيئات افتراضية مشتركة (Villalonga-Gómez & et al, 2023)
وقد تنعكس التحولات الرقمية “للميتافيرس” على قيم الهوية الوطنية وذلك بتأثيرها على أنماط الثقافات التعليمية في مجتمعاتنا، “فالميتافيرس” قد يُعزز التفاعل الثقافي والتواصل عبر الحدود الوطنية، مما قد يؤدي إلى تغييرات في الانتماءات للهوية والمفاهيم الوطنية التقليدية، وقد يُسهم التوجه نحو “الميتافيرس” التعليمي في توفير البيئات الافتراضية للتواصل والتفاعل الاجتماعي بطريقة أكثر واقعية وغامرة مما قد يُساعد على تطوير مهارات التواصل غير اللفظي، والتعاطف الرقمي. وذلك بالقدرة على فهم ومشاركة المشاعر والأحاسيس عبر البيئات الرقمية الافتراضية Stanoevska,2022)).
سيؤدي ظهور “الميتافيرس” وتطوره المتسارع، إلى تبني الهوية الرقمية التفاعلية وهي طريقة للأفراد للتعبير عن هويتهم الوطنية بطرق جديدة ومبتكرة. ومن المحتمل أن التفاعل بين الهوية الحقيقية والهوية الرقمية في “الميتافيرس”، سيؤدي إلى تشكيل شخصيات رقمية قد تختلف عن الهوية الحقيقية. مما قد يتسبب في التشكيك لمفهوم الهوية الوطنية التقليدية. سيهدف انتشار “الميتافيرس” إلى التبادل الثقافي والقيمي عبر الحدود الوطنية، مما قد يؤثر على الهوية الوطنية التقليدية. ومع ذلك، قد تكون هناك فرصة لتعزيز الهوية الوطنية من خلال إنشاء مجتمعات افتراضية قوية ذات طابع وطني et al, 2023) &Marques)
ومن المؤكد أن مؤسسات العمل المدني ستواجه تحديات في تعريف وتنظيم المواطنة في بيئة “الميتافيرس”، ومنها: الحدود الجغرافية الحقيقية، فقد تصبح أقل أهمية مما هي عليه في العالم المادي، وهذا قد يجعل من الصعب تحديد أين تبدأ وأين تنتهي سيادة الدولة وعملية المواطنة، كما قد يتمكن بعض المتصيدين والمحتالين من إنشاء وإدارة هويات رقمية مُتعددة وحتى متناقضة، وهذا التعدد في الهويات قد يجعل من الصعب تحديد من هو “مواطن” حقيقي لدولة معينة، كما ستسمح “الميتافيرس” للأفراد بإمكانية التنقل بين بيئات افتراضية مختلفة بسهولة، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى ظهور أشكال جديدة من المواطنة عبر الحدود الوطنية التقليدية، مما قد يضطر مؤسسات التربية والإصلاح إلى تطبيق لوائح وقوانين على البيئات الافتراضية “للميتافيرس”، وستكون هناك حاجة لوضع أطر قانونية وتنظيمية جديدة تتناسب مع طبيعة “الميتافيرس”، وقد يواجه تعزيز الهوية الوطنية في “الميتافيرس” اصطدام بالرغبة في التجريب والتعبير عن الهويات الرقمية المتعددة، لذا سيكون هناك حاجة لإيجاد توازن بين هذه الاعتبارات المتنافسة Poe, 2024)).
وسيتحتم على المؤسسات الوطنية والاصلاحية مسؤولية ضمان أن تكون الهوية الوطنية محفوظة وممثلة بشكل مناسب في “الميتافيرس”، لذا قد يتطلب ذلك وضع تشريعات وسياسات جديدة للتعامل مع التحديات المرتبطة بالهوية الرقمية والفضاء الافتراضي، ووضع قوانين وأطر للتعامل مع القضايا المرتبطة بالهوية الرقمية، مثل حماية البيانات الشخصية والملكية الفكرية، وموثوقية أن يكون التمثيل الرقمي للرموز والثقافة الوطنية محمي ومعترف به، وإنشاء بيئات ومناطق افتراضية تعكس الثقافة والتراث الوطني، وتشجيع المؤسسات الوطنية على إنشاء وجود رقمي قوي في “الميتافيرس”. وتشجيع المواطنين على المشاركة في الأنشطة والمجتمعات الرقمية ذات الطابع الوطني. وتمكين المواطنين من التعبير عن هويتهم الوطنية في الفضاء الرقمي. وإدراج مواضيع مثل الثقافة الرقمية والمواطنة الرقمية في المناهج الدراسية Poe, 2024)).
وقد يتطلب الأمر تطوير بيئات ومجتمعات “ميتافيرس” وطنية للتواصل والتفاعل بين المواطنين والحكومة. بحيث تعمل هذه المنصات على تعزيز التواصل المباشر ورفع مستوى الوعي بالقضايا الوطنية، كما يمكن أن تنشر هذه المجتمعات والبيئات المحتوى الرسمي والموثوق، وتساهم في المحافظة على الصورة الرقمية للهوية الوطنية، وتشجع المواطنين والتربويين الغيورين على المشاركة في المحتوى الرقمي الوطني، من خلال إطلاق مبادرات تشاركية عبر شبكات الانترنت تتناول القضايا الوطنية، ومن المهم أيضا إنشاء بيئات “ميتافيرس” للوسائط الاجتماعية الرسمية للمؤسسات الحكومية والثقافية الوطنية، وتطوير تطبيقات وألعاب إلكترونية تعزز المعرفة بالهوية الوطنية والثقافة المحلية، خاصةً بين الأجيال الصاعدة الواعدة. ومن الأهمية بمكان تبني التقنيات الرقمية لتوثيق التراث الثقافي والتاريخي الوطني والحفاظ عليهما، مثل الأرشفة الرقمية للمعالم التاريخية والوثائق والمخطوطات Poe, 2024)).
ومن المرجح أن الحكومات ستعمل على الموازنة بين الحاجة لحماية السيادة الوطنية والسماح بالتعبير الحر والخصوصية الفردية في “الميتافيرس”، كما سيؤدي الحد الزائد من الحريات الرقمية إلى إعاقة الابتكار والتطور في هذه البيئات الافتراضية، لذا ستحتاج مؤسسات الإصلاح الوطني إلى إيجاد طرائق لتعزيز الهوية الوطنية الثابتة، بينما في الوقت نفسه قد تسمح بتعدد الهويات الرقمية للأفراد، هذا التوازن سيكون ضروريًا لتفادي الانقسام والانفصال الاجتماعي في “الميتافيرس”، كذلك ستعيد الحكومات النظر في كيفية الحفاظ على السيادة الوطنية في بيئة افتراضية عابرة للحدود، وفي الوقت نفسه، ستكون هناك حاجة لقدر من التعاون الدولي لتنظيم وإدارة “الميتافيرس” بشكل فاعل، وستعمل الحكومات على ضمان إتاحة الفرص المتساوية لمشاركة جميع المواطنين في بيئات “الميتافيرس”، بغض النظر عن وضعهم الاقتصادي أو الاجتماعي، ومن المؤكد أن الحكومات ومؤسسات الإصلاح ستضطر إلى معالجة المخاطر الأمنية والاستقرار في بيئات “الميتافيرس”، بما في ذلك الجرائم الإلكترونية والتطرف، والإرهاب، والتنمر، والعنف الرقمي. وستكون هناك حاجة لإعداد أطر تنظيمية وتقنيات واستراتيجيات أمنية حديثة ومتطورة لمواجهة هذه التحديات. إن إعادة التفكير في مفاهيم السيادة والهوية الوطنية في “الميتافيرس” سيستدعي أيضًا من الحكومات إعمال توازن دقيق بين مجموعة متنوعة من الاعتبارات المتنافسة Poe, 2024)).
وفي ذات السياق ومن الأمثلة الناجحة للمحافظة على الهوية الوطنية في مجتمعات “الميتافيرس” التعليمية ما لاحظته من تجربة صحم للتعليم ما بعد الأساسي، حيث قام فريق مشكل من خمس طالبات بتجسيد (متحف بيت الزعفران) الذي يحمل ثقافات وعادات وقيم وطنية في البيئة الافتراضية، مُستعينين بموقع (ART STEP) على مستوى المدرسة، مما انعكس على قيم وهوية ومهارات الطالبات في المدرسة. لذا على مؤسسات الإصلاح والتربية تدريب وتشجيع الطلبة على بناء المحتوى الر قمي المتناسب مع الهوية الوطنية والحاجات التعليمية، وتضمين المتاحف، والقلاع، والحصون، والمورثات الحضارية الوطنية المادية في بيئات “الميتافيرس” التعليمية، وبناء مجتمعات “ميتافيرس” محلية تعكس الثقافة المحلية المستمدة من قيمنا وعاداتنا العمانية الأصيلة.
المراجع:
عبد التواب، زياد. (2022). ما وراء الميتافيرس: ذلك المجهول القادم. مجلة الديمقراطية، 22(85)، 161 -165.
Marques, W.R., Rocha, M.T., Silva, A.L., Rocha, L.F., Garcez, D.D., Nascimento, S.P., Silva, A.C., Sousa, A.R., Silva, A.R., & Santos, E.C. (2023). Metaverse, Artificial Intelligence and EaD in education: possibilities and limitations of DICT in the first quarter of the 21st century. Concilium. Doi.org/10.53660/clm-1818-23m34.
Poe (AI). (2024). Advanced conversation with artificial intelligence. Retrieved 15/07/2024.
Soroko, N. V. (2022). Applications of The Metaverse As A Tool for Creating Educational Materials for Secondary School. Institute for Digitalisation of Education of the National Academy of Educational Sciences of Ukraine, 15(28), 3-148
Stanoevska-Slabeva. (2022). Opportunities and Challenges of Metaverse For Education: a literature review, 14th International Conference on Education and New, 10401-10410. Doi: 10.21125/edulearn.2022.2527.
Villalonga-Gómez, C., Ortega-Fernández, E., & Borau-Boira, E. (2023). Fifteen Years of Metaverse in Higher Education: A Systematic Literature Review. IEEE Transactions on Learning Technologies, 16, 1057-1070.