وقد تصبح الحقيبة المدرسية نعشًا
د. أمل الحرملية
يقف الطفل زَين أمام القاضي في الملحمة الروائية السينمائية اللبنانية “كفرناحوم”، يَمثل أمام القاضي مترافعًا ضد والديه، يسأله القاضي: شو جاي تعمل المحكمة؟ يجيب زَين: أشتكي على أهلي لأنهم خلفوني!
(أي لأنهم أنجبوني!)
مشهد لم أستطع تخطيه أبدًا، وأنا أتأمل حال الكثير من أطفال العالم الذين يقاسون الفقر والتهجير والجوع والاغتراب والعنف بسائر صنوفه، ومن الإهمال كما في حالة زَين، الذي عانى ويلات أن تعيش في قعر جهنم لكن هنا، هنا على هذه الأرض التي يصبح الجو فيها خانقًا أحيانًا حتى في وسط غابة من الأكسجين المنعش، فيولد ملايين الأطفال دون غاية وجودية واضحة ومقصودة من ولادتهم، يُحرمون الحب والرعاية، وفي محيطٍ بشريٍ يصارع لأجل غاية البقاء بأي وسيلة، فتبرر الغاية الوسيلة، تمامًا كما في فلسفة ميكافيلي، الذي قام علماء النفس بعده بتصميم أداة معيارية لتقييم مدى ميكافيلية الفرد، وتبين لهم أن الأشخاص الذين لديهم مستوى عالٍ من الميكافيلية يعطون أولوية للسلطة والمنصب والمال، ويركنون للفوز الخشن، أي الحصول على مثلث الثراء هذا بأي ثمن.
على الجانب الآخر، هناك أوطان وفّرت لأبنائها سُبُل العيش الكريم، تعليم مجاني، وعلاج مجاني، وحفظت حياتهم وحرياتهم بالقوانين الحامية والرادعة، كما هي عُمان، مجتمع عُرف عنه التعايش والتكاتف والسلام. لكننا حين نرى بعين المواطن البسيط الذي يراقب ما يجري حوله بعيون العدسات المصورة هنا وهناك، يدرك أن اللا مبالاة والاستهتار هي عنصر حاسم في الكثير من الوفيات التي تصلنا أنباؤها، وخصوصًا عن هؤلاء الذين قضوا نحبهم غرقى في البِرك والوديان التي تتبع كل حالةٍ جويةٍ ممطرة، أيًا كان نوعها. أنواء لا تتجاوز اليومين والثلاثة وتخلِّف ضحايا، بينما تمطر بعض الدول لشهور متواصلة دون تَوقُف دون أن تُزهَق روح واحدة!
مشهد يتكرر، حتى مع كل الاحترازات والتنبيهات التي تصدر من الأرصاد، وفيّات لا مبرر لرحيلها سوى قصور الوعي وغياب بصيرة اليقظة لدى مَن خُوِّل إليهم مهمة حماية هؤلاء الناس، من آباء وأصدقاء ومسؤولين.. مسؤولين بمستوىً عالٍ في مقياس الميكافيلية، حيث يكون صوت صرير كرسي المنصب أعلى من أي صوتٍ آخر، كبُر هذا المسؤول أو صغُر.
فكيف إذا كان المفترض حمايته هم أطفال، أطفال ينقصهم الإدراك الجيد للمخاطر التي تحدق بهم، والنهايات التي تتربصهم، وكل ما يفقهونه عن الحياة هو متعة اللعب، وسِحر قطرات المطر وهي تندلق على جباههم وتغسل أحداقهم وتتزحلق عبر وجناتهم حتى تصطدم بشفاههم الصغيرة فيتذوقون ماء السماء.
تذكرتُ زَين، تخيلتُ البارحة وأنا في غورِ الألمِ والحزن بعد خبر وفاة إحدى عشر طالبًا غرقًا بعد أن جرفتهم الأودية من مركبة تُقلهم في الطريق بين مدرستهم وبيوتهم وهم يضعون حقائبهم المدرسية فوق ظهورهم. ماذا لو كان بإمكانهم اليوم – بمعجزةٍ ما – أن يقفوا أمام القاضي مثل زَين، ويشيرون بسبابتهم المتجعدة من فرط تخلِّلها في مياه الوادي بالأمس إلى المسؤول أو المسؤولين عن رحيلهم المباغت هذا، هل سيشيرون إلى مدير المدرسة ومديري المدارس الذين أخرجوا الأطفال من المدارس في ذروة الحالة ؟ سائق المركبة الذي قطع بهم الوادي؟ المديرة العامة للمحافظة التعليمية التي لم تُعِر اهتمامًا للأخبار القادمة من الأرصاد؟ معالي الوزيرة التي لم تقرر تعليق الدراسة ورمت الكرة في ملعب مديري العموم الذين يهم بعضهم القانون أكثر من روح القانون؟ أم المجتمع الذي ظهرت فيه أصوات نشاز تأففت وتذمرت مرات ومرات من تعليق الدراسة إبان كل منخفض جوي تُنبئ به لكنه خفيفًا انهمر لطيفًا عبَر؟ أم إلى التخطيط العمراني الذي أقام البنيان في وسط الوديان أو حوافها القريبة كما يقول شيّابنا: “الناس تعدّت على الأودية ما الأودية تعدّت عليهم”؟ أم كل هؤلاء؟
قفص الاتهام بحجمه الحالي في المحكمة لن يتسع هذه المرة، ينبغي أن يتم جلب قفص آخر بحجم الكارثة التي جعلت الجميع في صدمة وذهول من هَول هذا “الخطأ غير المقصود” الذي سلب تلك الملائكة الصغيرة أرواحها وأحلامها، وحيواتٍ كانوا يخططون ليعيشوها حين يكبرون بكل تفاصيلها.
ولا ينبغي أن يمر هذا الموضوع دون مساءلة وتحقيق؛ فالمناخ يتغير في بلادنا، وأصبحنا من أكثر الدول تعرضًا للأعاصير والمنخفضات الجوية، فإن استمر مسلسل نزف الأرواح هذا في كل منخفض يدوم ليوم أو يومين، فنحن نُقر بفشل منظومة إدارة الأزمات والحالات الطارئة لدينا، ليس على مستوى الحكومة وهي التي تستنفر في كل مرة تأهبًا لهذه الجوائح والأنواء فحسب، بل على المستوى الشعبي كذلك، والذي يبدو أنه ما زال غض التجربة فيما يتعلق بآليات التعامل السليم مع مثل هذه الأجواء الماطرة،حتى برغم تكرار حدوثها وتقاربها في السنوات الأخيرة.
فإن سمحنا لما حدث أمس أن يحدث في قادم الأيام، فسنكون كمن يقدم هؤلاء الطلبة قرابين لتبقى صورة التعليم لامعة وبراقة، وكأن تعليق الدراسة حتى عبور هذه الأنواء هو سبب كل عاهات التعليم الحالية، والتي يبدو أنه لا علاج قريب لها، فكيف لم تستفد وزارة التربية والتعليم من أزمة كوفيد – ١٩ التي علمتنا أن التعليم ممكن بشكله الافتراضي دون الحاجة لأسوار مدرسة وكراسي وجدران؟
كيف تدافع وزارة عن نجاح تجربتها في التعليم عن بُعد لكنها تصر على إرسال الطلبة والمعلمين إلى المدارس في مناطق تحيط بها الوديان من كل حدب وصوب فقط لأجل تسجيل حضور روتيني مَقيت؟
ثم كيف يمكن زَج إحدى عشر طالبًا في سيارة واحدة؟ وكيف يمكن لتلك السيارة الواحدة أن تقطع واديًا ويتوقع سائقها الوصول للضفة الأخرى هكذا بمنتهى السهولة والسذاجة دون مراعاة لاعتبارات عمق المجرى وسرعة تدفق الوادي؟!
أسئلة كثيرة جدا تحوم حول رؤوس الجميع منذ الأمس، علامات استفهام لا تهتدي لإجابة، وصمت مطبق من المسؤولين يؤذي عوائل هؤلاء الأطفال ويجرح صبرهم عند صدمتهم الأولى حين تلقوا الخبر، ويجعل البقية قلقين على أبنائهم مخافة تكرار هذا المصاب الجلل في المستقبل القريب أو البعيد..
ولأجل هذا كله، ينبغي أن تتسع رقعة الوعي لدى الجميع، ابتداء من الأسر ذاتها، وأن تفعّل أدوات المحاسبة والمساءلة باعتبارها جريمة من نوع: “القتل غير العمد” كما في الكثير من دول العالم، وأن نرى ردود فعل حازمة من الحكومة تتمثل في تنحية المسؤولين المباشرين وغير المباشرين عن حدوث هذه الكارثة من مناصبهم، حتى ننتقم لتلك الأرواح ونمنحها العدالة التي تستحق، فليس مقبولًا ولا مفهومًا أن تصبح الحقائب المدرسية نعوشًا، والدشاديش البيضاء أكفانًا، والباصات جنائز..
اللهم بردًا وسلامًا على قلوب ذويهم ومحبيهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون
لا راد لقضاء الله
ولا معقب لحكمه
وكل شيء عنده بأجل بسمى
الأرض ارضه والسماء سماؤه والملك ملكه والأمر أمره ونحن عبيده تحت تدابير تقاديره ومشيئته
نسلم أمورنا بين يديه ونؤمن به ونتوكل عليه
فلا سخط على ما قدره وجرت به الأقلام في علم غيبه ومشيئته
ولا يسعنا الا ان نقول الحمد لله أولا وآخرا
ولا حول ولا قوة الا به
وانا لله وانا اليه راجعون
نسأله سبحانه أن يلطف بكل مبتلى ومكلوم
ويرحم من اختارهم شهداء ضيوفا لديه في دار رضوانه وجنته
مقال عميق ويرقى لمستوى الحدث الجلل… أتمنى من مجلس الوزراء أن يتخذ قرارات بهذا الشأن
نعم دكتوره الجميع مسؤول من أعلى السلم (الوزيرة) والمديرة العامة للمحافظه ومدير المدرسة والسائق الذي دخل بهم الوادي..
لاحوله ولاقوة إلا بالله..
اعان الله والديهم..