تعليم القيم في العصر الرقمي

يحظى التعليم على مر العصور باهتمام من قبل صُنَّاع القرار؛ نظرًا لدوره في غرس القيم والأخلاق واكتساب المعرفة وتنمية الاتجاهات؛ لتنشئة الفرد مواطنًا مسؤولاً في مجتمعه. لكن في نظرة تحليلية استقرائية، لازال المحتوى التعليمي والتربوي يسيطر عليه التنظير القائم على الحفظ والتلقين، وبعيدًا عن الجانب الوجداني المتمثل في (التربية الوجدانية وتعليم القيم) كونه يخاطب عاطفة الفرد والجانب الإنساني والذي يشكل مكونًا مهمًا في تحصين المتعلم من أية انسياقات سلبية أو ممارسات مرفوضة. كما أشارت العديد من الأدبيات بأن التربية الوجدانية التي تتمثل في تضمين القيم في نصوص التعليم وأنشطته، يعمل على بناء الشخصية السَّوية وتشكيل الاستجابات الإيجابية، ولكن بقيت مهملة وتعاني من فجوة تعليمية بسبب هيمنة التربية المعرفية على حساب تعليم القيم والأخلاق.

مع بزوغ الثورة الرقمية ‏التي يشهدها المجتمع الإنساني، فقد أحدثت تغيرات جذرية واسعة انعكست على أسلوب الحياة المعاصر من الجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والتربوي، إن هذا الاندماج ‏قد أحدث التوسع في تبادل المعلومات وثورة في الاتصال، من خلال سيطرة الوسائل والمنصات الرقمية، التي أتاحت الفرصة للأفراد في الحصول على المعلومات ومعالجتها. ومع تزايد وتفاقم طرق الاستفادة ‏من هذه الشبكات الرقمية انعكست آثارها من الجانب السلبي على أشكال التفاعل الإنساني وأنماط العلاقات بين الأفراد. كما أن هذه الثورة الرقمية قد ألقت بظلالها في سهولة نشر الأفكار، وسهلت فرص التعبير عن الآراء والأفكار والمواقف وإشباع الرغبات المتنوعة. لقد أخذت الوسائط الرقمية والشبكات التكنولوجية مساحة رئيسة في كل مكان وزمان خاصة مع توافر شبكات الإنترنت ‏والتي سهلت وجود أنواع متعددة من الطرق الافتراضية، والتي تستخدم من خلال أجهزة متعددة، مثل: الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر والتابلت وغيرها. إن الارتفاع المتسارع والطلب المتزايد بشكل ملحوظ على الوسائط الرقمية أخذت آثارها السلبية تظهر ‏بشكل واسع ومعقد ومخيف على الأفراد وعلى المجتمع ومؤسساته، الأمر الذي أدى إلى ظهور العديد من الاختلال في قواعد السلوك اليومي سواء على مستوى الأسرة أو المدرسة أو بيئة العمل، كما أدى إلى توتر العلاقات وظهور الانقسامات في الولاء والانتماء، وتنامي حالات التنمر والعنف الرقمي والإرهاب الإلكتروني الذي أصبح يتعايش بشكل يومي معنا بسبب ‏غياب السرية واحترام الخصوصية، والاختراق الجريء لقواعد المعلومات الشخصية. لقد أشارت عدد من الدراسات إلى انعكاسات خطيرة أخذت تظهر على المكونات الاجتماعية وبالتحديد على سلوكيات طلبة المدارس منها (العزلة الصفية، التوحد والشرود الذهني، رفض المشاركة الجماعية، التنمر، العنف اللفظي، القلق، اللامبالاة، والاهمال وغيرها). اليوم ما نراه من عزلة نفسية مخيفة لهذا الجيل وانتشار لأفكار متطرفة ورغبات تخالف الدين والقيم؛ فنحن أمام استحقاق مهم في التأكيد على العودة إلى تضمين التربية الوجدانية والقيم الإنسانية والأخلاقية في محتوى التعليم.

نظرًا لأهمية الدور الذي يلعبه التعليم في حياة الأفراد وفي بناء المجتمع، فقد ‏تناولت العديد من الدراسات الأدبية والتربوية أهمية مسارات التعليم من حيث المحتوى والأنشطة في تنشئة الأفراد، وخاصة المتعلمين في مراحل التعليم المختلفة بالمعرفة والقيم والاتجاهات، إلا أن تقييم المخرجات التعليمية في الآونة الأخيرة ومع التوسع في الطفرة الرقمية، فقد انعكست على تراجع تعليم القيم في الأنظمة التعليمية وبالتحديد في مكونات التعليم المدرسي من ( مناهج تعليمية وأساليب التدريس والتقويم ) رغم أهميته كمكون مهم في التربية الوجدانية خاصة ‏في تشكيل سلوك المتعلمين ومشاعرهم وتلبيه احتياجاتهم وأنماط علاقاتهم مع الآخرين، إضافة إلى التغيير الذي صاحب أنظمة التعليم بعد جائحة كورونا في التحول إلى التعلم عن بعد والتعليم المدمج.

وهنا نقف في تحديد بعض الأسباب وراء هذا التراجع والقصور في غياب تعليم القيم في المؤسسات التربوية، وعدم تضمينه في المسارات التعليمية الافتراضية:

  • التغيير المستمر في محتوى المناهج، وغياب الرؤية في نمط التعليم المطلوب لمستجدات العصر الرقمي في عدم مواكبة المناهج الدراسية الحالية للدخول في متطلبات العصر الرقمي.
  • تراجع كفاءة المعلم من حيث الأعداد والتدريب والتأهيل المهني في كيفية استخدام الوسائط الرقمية.
  • غياب الحداثة في الأهداف التربوية فلا زالت الأهداف تصاغ وتطبق بالتركيز على المعرفة والحفظ والتلقين وليس التعليم بالخبرة والعمل والخدمة.
  • قلة وجود وتوافر الإمكانات المادية في المدراس والتي يتطلبها مستلزمات التعليم الرقمي.
  • اختزال الأنشطة المدرسية في الأساليب التقليدية والأنماط التي تعتمد على مصادر محددة.
  • وجود فجوة بين البيت والمدرسة من حيث التأهيل والتدريب والمتابعة للطلبة وأسرهم في طرق استخدام المنصات الرقمية بما يضمن لهم الأمان التقني.
  • سيطرة أساليب القيادة المدرسية المكتبية التي تعتمد على التفتيش والرقابة وبعيدًا عن أسلوب الإدارة الديموقراطية والعمل من خلال الفريق.
  • غياب برامج التدريب والوعي في طرق استخدام المنصات الرقمية، والتعليمية للطلبة، وأسرهم والمعلمين.
  • رفض التحول في أنماط التعليم من الحضوري إلى الافتراضي أو المدمج مما شكل حالة من الانقسام بين صناع القرار في المؤسسات التربوية.

إن تضمين الأسباب السالفة نؤكد مدى الحاجة إلى تربية وتعليم يسهم في توعية طلبتنا من مخاطر الاستخدامات السلبية الرقمية، سواء في التعليم المدرسي والجامعي بما يضمن حمايتهم وحفظ الهوية الثقافية لمجتمعاتنا الإسلامية والعربية. إن توفير المناخ المدرسي المناسب مسؤولية مشتركة من صناع القرار ومنفذيه،  لذا تجدر الأهمية في تشجيع المعلمين على تطبيق الاستراتيجيات التعليمية الحديثة التي تسهم في إشباع رغبات الطلبة والرد على تساؤلاتهم، مع التركيز علي التعليم العاطفي والوجداني وتعلم المهارات الحياتية التي تربط الفصول الدراسية بالحياة الواقعية، مع إتاحة الفرص التعليمية التي تتيح المجال للطلبة في إبداء الآراء المختلفة، خاصة وأن الثورة الرقمية خلفت جيل يرتاد مدارس اليوم، ولديهم زخم من المعلومات والتجارب المتنوعة والأفكار الجريئة، وإذا لم نساير هذا التحول المتسارع، فنحن أمام ثورة صامتة في أنظمة تعليمنا لن تستطيع أن تتماشى مع طفرة العصر الرقمي.

إن تضمين تعليم القيم وتعزيز مفاهيم ومهارات التربية الوجدانية تتطلب البدء في:

  • إعادة صياغة الأهداف التربوية والتعليمية العامة والخاصة لتواكب متطلبات التعليم الرقمي.
  • تطوير برامج إعداد المعلمين وبرامج التنمية المهنية لتمكين المعلمين من كفايات تعليم القيم ومهارات توظيفها في المحتوى التعليمي.
  • استحداث المنصات التعليمية على مدار السنة، لتقديم قاعدة البيانات والمعلومات في مجال التدريب والتأهيل للطلبة والمعلمين والهيئات الإدارية لمتابعة كل ما هو جديد في مجال ربط التعليم الرقمي بأنماط التعليم الأخرى.
  • بناء مناهج تعليمية حديثة ومرنة تعتمد على المكونات المعرفية والمهارية والقِيّمية مع مراعاة خصائص كل مرحلة تعليمية.
  • توظيف طرق التدريس وأساليب التعلم النشط التي تجعل من المتعلم محور العملية التعليمية.
  • تنويع أساليب التقويم والتغذية الراجعة للمتعلمين التي تقيس الجانب التحصيلي العلمي والمهاري.

د. سلوى الجسار

نائب سابق في البرلمان،دكتوره بجامعة الكويت ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏Former Member of Kuwait Parliament,AssociateProfessor at Kuwait University,International Examiner

‫2 تعليقات

  1. تبارك الرحمن تميز عالي تعودناه منك د. سلوى
    نعم نحن بحاجة بشدة إلى تطوير برامج التنمية المهنية للمعلم وتطوير أساليب التقييم فلم تعد الأساليب القديمة من امتحانات نظرية ذات جدوى فنحن نحتاج إلى أساليب تقسم القيم والمهارات المكتسبة التي تتناسب ومتطلبات عصر الرقمنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *