حرب الولاءات.. بين القيم والمادة
يعتبر الولاء التنظيمي واحدًا من أهم مداخل دراسة المؤسسات؛ باعتبار أن الفوز بولاءات الموظفين واحد من أهم عوامل نجاحها واستمراريتها واستقرار الموظفين فيها، ورفع مستوى الإنتاجية، وخفض معدلات الغياب والتأخر عن مواعيد العمل وطلبات الانتقال إلى مؤسسات أخرى.
ويمكن النظر إلى الولاء التنظيمي باعتباره اتجاهات الفرد نحو المؤسسة التي يعمل فيها، والتي تظهر على شكل تعلق واضح بقيم وأهداف المنظمة، ورغبة أكيدة في البقاء فيها، والإخلاص لأهدافها، والعمل على تحقيقها، وبطبيعة الحال فإن هناك عدة عوامل تقف وراء تباين ولاءات الموظفين لمؤسساتهم، حتى ممن يعملون في الوظيفة ذاتها، ولنفس المؤسسة.
في كتاب “نهاية الولاء: صعود وانهيار الوظائف الجيدة في الولايات المتحدة” لمؤلفه ريك وورتزمان، تحدث عن مشكلة تواجهها معظم المؤسسات في معظم دول العالم، وهي قلة زيادات أجور الموظفين خلال سنوات عملهم الطويلة، والذي يعني مدخرات قليلة، وقلة الحوافز والمكافآت المعنوية والمادية على حد سواء في الكثير من بيئات العمل، مع ارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة والرعاية الصحية وخدمات أخرى، كما أصبح التنقل بين الوظائف صعبًا، وإجباريًا في بعض الأحيان، الأمر الذي ضاعف حدة الضغوط والتحديات التي يواجهها هؤلاء الموظفين، فتراجع تبعًا لذلك الأمان الوظيفي لديهم، وهو ما يهدد قيمة الولاء الوظيفي كذلك.
وفي ظل هذه التحديات والتحولات التي تحكم المؤسسات وأنظمة العمل فيها، أصبح الاعتماد على الولاء القائم على المادية والتنافسية والربحية تهديدًا لولاء الموظفين، وزعزعة لانتمائهم الوظيفي؛ إذ إن ذلك يجعلهم في حالة تأهب لاقتناص أي فرصة تكفل لهم وضعًا ماديًا أفضل في أي مؤسسة أخرى.
لذا تبنت المؤسسات مهمة العمل على كسب ولاء موظفيها عبر غرس الولاء المرتكز على الإخلاص للمؤسسة ولأهدافها ورؤيتها، حتى في الوقت الذي تقل فيه الحوافز، وذلك بعد أن فشلت تلك المنظومات في إحداث التوزان بين الجهود المبذولة من قبل الموظف، وبين الحوافز المادية في بيئة العمل؛ نظرًا للتحديات الإدارية والمالية، وخصوصًا في المؤسسات الحكومية. وهي بطبيعة الحال مهمة صعبة وتحكمها متغيرات كثيرة، مما جعل صناعة الولاء القائم بدافع قيمي بحت لدى الموظفين أمرًا شائكًا وصعبًا في ظل هيمنة النزعة المادية في الأفعال والسلوك الوظيفي تلبية لمتطلبات الحياة المعاصرة من ناحية، وازدياد مشكلات العمل من ناحية أخرى، مثل التنافسية والإدارات البيروقراطية التي تنتهج المحسوبية والتحيز غير المنصف بين أطراف العمل، ومنهجية غير عادلة وفي أحيان كثيرة غير واضحة في الترقية والمكافأة، الأمر الذي يهيئ لبيئة يملأها الصراع ويغذيها التآمر ويشيع فيها التسيب والمماطلة في إنجاز المهام، ويتزعزع الانتماء الوظيفي والولاء التنظيمي وخصوصًا لدى الموظف المجتهد؛ الذي يعمل جاهدًا على تحقيق أهداف المؤسسة بجودة وإتقان مشهودَين، مما يقود الكثير من الموظفين المجيدين في نهاية الأمر إلى النظر إلى أعمالهم على أنها ليست سوى آلة صراف آلي توفر لهم معيشة كريمة، فينأون بأنفسهم عن الصراعات الدائرة، ويجعلون غايتهم إنجاز الحد الأدنى من العمل المطلوب منهم، بينما يسعى البعض الآخر إلى البحث عن بيئات عمل أخرى تتمتع بقدر أعلى من المهنية في التعامل مع الموظفين وتوفير المناخات الملائمة للعمل والإنجاز، حتى وإن كانت بذات المكاسب المادية للمؤسسة الحالية.
ويمكننا الإيجاز بأن كسب ولاء الموظفين ليس عسيرًا في ظل غياب الحوافز المادية وتفاقم الوضع الاقتصادي على مستوى الحكومات والأفراد، إذا ما توفر مناخ تنظيمي عادل وإيجابي وداعم ومحفز للموظف، يشعر تحت جناحه بأنه يحظى بالتقدير اللائق لعمله وإنجازاته، ويمنحه التطوير المهني والتأهيل الجيد لمهاراته وخبراته، ويربطه بقيم المؤسسة وأهدافها من منطلق أن المؤسسة للموظف والموظف للمؤسسة، كيان واحد غير قابل للقسمة أو التبعيض، وهذا من شأنه ترجيح كفة القيم على المادة في حرب الولاءات القائمة، فيبقى الموظف محور ارتكاز مؤسسته وعمود رسوخها، ويبقى ولاؤه لها وقودًا يدفعه لتجاهل الكثير من منغصات بيئة العمل وتحدياتها.