حمايةُ المال العام.. ركيزةُ عُمان المستقبل

مسقط في 21 مايو /العُمانية/ تشكّل منظومة حماية المال العام في سلطنة عُمان ركيزةً أساسيّةً من ركائز عُمان المستقبل، وتشكّل التشريعات والقوانين المنظِّمة لها أهمية قصوى في صون حقوق الوطن والمواطنين من أجل ترسيخ العدالة والنزاهة في شتّى القطاعات المختلفة. هذا ما أجمع عليه عددٌ من الأكاديميين والخبراء المختصّين بالقضايا المجتمعية في حديثهم لوكالة الأنباء العُمانية.

وأشارت إحصاءات جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة والادعاء العام إلى أن الأموال المحصّلة للحقّ العام خلال العام الماضي بلغت 3 ملايين و432 ألفًا و637 ريالًا عُمانيا، فيما بلغت في عام 2022م 17 مليونًا و800 ألف ريال عُماني، كما بلغت 80 مليون ريال عُماني في عام 2021م.

وأكّد الدكتور حمد بن حمدان الربيعي ‏رئيس مجلس إدارة جمعية المحامين العُمانية على أن الاعتداء على حرمة المال العام هو اعتداء على حق الدولة وعلى حقّ كل المواطنين، لأن المال العام تديره الدولة لصالح المواطنين.

وقال إن المشرّع العُماني عرّف المال العام بقانون الجزاء العُماني الجديد وفق مقتضيات المادة 11 من المرسوم رقم 7 لسنة 2018، بأنه ما يكون كلّه أو بعضه مملوكًا لإحدى الجهات الرسميّة أو خاضعًا لإشرافها أو لإدارتها، وما يتمثل ذلك في الدولة ووحدات الجهاز الإداري، أو الشركات المملوكة بالكامل للحكومة، أو تساهم الدولة فيها برأس مال لا يقل عن 40%، أو أي جهة أخرى ينص القانون على اعتبار أموالها أموالًا عامة.

وتابع أن المرسوم السُّلطاني رقم 112/2011 بإصدار قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح عرّف المال العام بأنّه مجموعة من الأموال التي تتملكها الدولة أو أحد الأشخاص الاعتبارية ملكية عامة، وتكون مخصّصة للنفع العام بحكم طبيعتها أو بالفعل أو بإرادة السلطة العامة، كما أفرد المشرّع المواد التي تحافظ على المال العام بالمادة 5 التي نص فيها على أنه يجب على المسؤول الحكومي أن يحُول دون إساءة استعمال المال العام وأن يبلغ الجهات المختصة بما ثبت لديه من مخالفات.

وأضاف أن المواد 6 و7 و8 و9 و10 أشارت للمحظورات التي تحظر على الموظف العام القيام بها لتحقيق منافع شخصية على حساب المال العام والأموال العامة بالمادة الـ 4 للأموال العامة وحرمتها، وأنه يجب المحافظة عليها ولا يجوز التصرّف فيها بأي شكل من التصرفات إلا وفقًا لأحكام القانون، كما لا يجوز الحجز عليها أو التعدّي عليها أو تملّكها أو كسب أي حق عيني بالتقادم، ويقع باطلًا كلّ تصرّف يتم بالمخالفة ومقتضيات المادة الـ 8 من قانون حماية الوحدات الخاضعة لرقابة الجهاز، ومنحه التحقق من تنفيذ القوانين واللوائح والنّظم والكشف عن أسباب القصور في الأداء والإنتاج وتحديد المسؤولية والتأكّد من حسن سير العمل، وأحكام المادة 11 من القانون ذاته التي منحت الجهاز الحقّ في بحث الشكاوى التي ترد للجهات عن الإهمال أو مخالفة القوانين، وفحص المخالفات المالية والإدارية.

وأشار إلى أن المشرّع أوجب في قانون حماية المال العام على المسؤول الحكومي أن يحول دون إساءة استعمال المال العام وأن يبلّغ الجهات المختصة فورًا بما يثبت لديه من مخالفات تتعلق بالمال العام، وأنه يحظر على أي مسؤول حكومي استغلال منصبه أو عمله لتحقيق منفعة له أو لغيره أو استغلال نفوذه ليسهل لغيره الحصول على منفعة أو معاملة متميزة. ويحظر على المسؤول الحكومي إبرام أي تصرف يؤدي إلى المساس بالمال العام أو تبديده ولا يجوز للمسؤول الحكومي استعمال الأموال العامة في أغراض شخصية أو في غير الأغراض المخصصة لها.

وأردف أن من ضمانات حماية المال العام أنه لا يجوز التوقيع على الحجز القضائي أو التحفظي أو الإداري على هذه الأموال للوفاء بديْن مستحق للغير على الدولة؛ لأنه يترتب على الحجز التنفيذي على المال العام تعريض المال العام للبيع جبرًا بمفهوم المخالفة للأصل عدم جواز نقل المال العام للغير بالطريق الاختياري أو الجبري.

من جانبه قال الدكتور ماجد بن محمد الكندي أستاذ الفقه وأصوله والاقتصاد الإسلامي بجامعة السُّلطان قابوس إن “الشريعة الإسلامية صارمة كل الصرامة مع من يعتدي على الأموال العامة، ولئن كان المُعتدي على الأموال الخاصة يشترط لقبول توبته ردّ المظالم إلى أهلها واستبراؤهم من جريمة الاعتداء عليهم، فيا ترى متى يصل المعتدي على الأموال العامة إلى التوبة، وكم عليه أن يستبرئ من الناس، وإلى أي جيل سيبقى يستبرئ الناس وهي أموالهم كلهم؟!”

وأضاف إن المال العام حقٌّ للمجتمع كله، بل هو حقٌ للأجيال المتعاقبة، وليس هو حقًّا لأفراد جيل واحد، وأن الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-امتنع عن قسمة أراضي السواد من الشام وفارس لتكون مالًا عامًّا وتسد بها الثغور، وينفق منها على الذرية والأرامل ولتكون للأجيال التي تأتي من بعدُ.

وبيّن أن حماية مال هؤلاء كلّهم، والحفاظ عليه بأعلى درجات الكفاءة لا يتحقق إلا بعد أن تلتفّ عليه المنظومة الاجتماعية كلها بمختلف مواقعها من المسؤولية بدءًا من أعلى سلطات المجتمع في التشريع والتنفيذ مرورًا بالموظفين المباشرين، وانتهاء بعامّة الناس المنتفعين وغير المنتفعين.

وأشار إلى أنه من أمانة الله للعباد الذي جعل الأرض وما فيها لهم يعيشون بها عيشًا هنيئًا يتقاسمون فيه موارد الأرض التي أودعها الله فيها، وسيكون من الأثرة المذمومة، والظلم الجلي استحواذ فرد أو أفراد على قوت العامة، وحسْبُ امرئ من الشرّ أكله أموال غيره، وحسْبُه من الخيانة أن يرى المال العام تُنتهك حرماته أمام ناظريه ولا يؤدي الواجب الذي سيُسأل عنه وماذا فعل فيه، وإن كانت ثمَّ شراكة مجتمعية لحماية المال العام والقيام بحقّ الله فيه فسينعم المجتمع كلُّه بخير المال العام.

‏‏وللتعرف عن قرب على دور جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة في تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الشراكة والتكامل في حماية المال العام ورفع كفاءة استخدامه، أكّد الدكتور حمير بن ناصر المحروقي مدير مركز التدريب والمتحدث باسم الجهاز ‏على ما يوليه الجهاز من عناية كبيرة بجوانب غرس ثقافة النزاهة ‏وتعزيز الممارسات ذات الصلة بها على المستويات المؤسسية والمجتمعية، ‏مبيّنًا الآثار الإيجابية الناتجة عن وعي المسؤول الحكومي والموظف والأفراد في المجتمع ‏بالجوانب المتعلّقة بالمال العام والواجبات تجاه الوظيفة العامة ‏التي تتمثل في تحقيق الرقابة الوقائية من خلال امتناع الأفراد عن القيام بأي تصرّف يتنافى مع الأطر القانونية والقيم الوظيفية.

ووضح أنه ‏إضافة إلى تعزيز الدافعية الذاتية لدى الأفراد بتبني الممارسات القويمة حيال المال العام والوظيفة العامة، فإن الاتفاقيات الإقليمية والدولية تبرز أهمية هذا الجانب في تحقيق المستوى ‏الأعلى من الحماية للمال العام، وهو الأمر الذي تحرص سلطنة عُمان على الوفاء به بشكل كامل ‏من خلال أجهزتها المختصة.

وأشار إلى مجموعة من المبادرات أبرزها متابعة تنفيذ الخطة الوطنية لتعزيز النزاهة (٢٠٢٢ -٢٠٣٠) ‏بالتعاون مع الجهات الحكومية ذات العلاقة، ‏وأن أن الخطة هي بمثابة الأداة المرجعية للعمل الوطني والتكامل المؤسسي في مجال تعزيز النزاهة وحماية المال العام.

وبيّن أن أحد محاورها الرئيسة يندرج تحت مفهوم تعزيز النزاهة والمشاركة المجتمعية في حماية المال العام، علاوةً على ما يقوم به الجهاز ‏في إطار تنفيذ البرامج الاستراتيجية الموكلة إليه ضمن خطة التنمية الخمسية العاشرة في مجال تعزيز قيم النزاهة لتحقيق الأهداف الواردة في الخطة الاستراتيجية للجهاز، والتكامل مع الأهداف الوطنية الواردة في رؤية عُمان ٢٠٤٠.

‏‏‏ووضح أن الجهاز يتبنى ثلاثة مسارات رئيسة، ‏أولها الندوات والمحاضرات والحلقات التوعوية التي يتم تقديمها للجهات المشمولة بالرقابة والمؤسسات التعليمية ومؤسسات المجتمع المدني، ‏ومن خلالها يتم تقديم المحتوى التوعوي بالمسائل ذات الصلة بالمال العام والوظيفة العامة ‏انطلاقًا من القيم الدينية والأطر القانونية وغيرها.

وقال إن المسار الثاني يتمثل في الإصدارات التوعوية وهي الإصدارات المطبوعة مثل كتاب “النزاهة وأثرها على الأداء الوظيفي والمؤسسي” ‏إلى جانب الإصدارات الإلكترونية والإصدارات المرئية والمسموعة ومنها برنامج الرقابة والتنمية، وبرنامج الرقابة مسؤولية الجميع، والبرنامج التلفزيوني “نزاهة” الذي تم بثه في 6 مواسم عبر القنوات المختلفة. ‏

وأشار إلى أن المسار الثالث يتمثل في المشاركة في الفعاليات العامة مثل المعارض والمهرجانات، ويتم خلالها التواصل المباشر مع الزوار وتلقي المقترحات والإجابة عن الاستفسارات وتوزيع الإصدارات المختلفة وإلى ما يوليه الجهاز من عناية بمواكبة أفضل الممارسات الدولية واستخدام أنظمة تقنية المعلومات والذكاء الاصطناعي وتوسيع المشاركة المجتمعية في الأنشطة التوعوية.

‏وأكد على أهمية الأدوار التكاملية بدءًا من الفرد مرورًا بالأسرة والمجتمع وانتهاءً بالمؤسسات في غرس ثقافة النزاهة، ‏فحماية المال العام مسؤولية جماعية يضطلع بها الأفراد والمجتمع والمؤسسات كلٌّ في مساره ووفقًا للأدوار الموكلة إليه.

من جهتها قالت فهيمة بنت حمد السعيدية عضو لجنة الدراسات والبحوث بجمعية الاجتماعيين العُمانية إن الجانب الاجتماعي ويُقصد به المجتمع وأفراده يؤدي دورًا حيويًّا في حماية المال العام؛ ويشكل الوعي المجتمعي أساسًا قويًّا في تعزيز ثقافة المسؤولية في حماية الموارد والخدمات العامة في الدولة والحفاظ عليها.

وأضافت أن التوعية المجتمعية بحماية المال العام في المجتمع من الأسرة، باعتبارها مؤسسة التنشئة الأول تبدأ من خلال غرس القيم والأخلاقيات والاتجاهات الإيجابية لدى الأبناء منذ سنواتهم الأولى مثل أهمية عدم الإسراف والحفاظ على الموارد والمرافق والخدمات العامة، كما تعدّ الأسرة قدوة ونموذجًا للأبناء في غرس قيم الرقابة الذاتية، والمسؤولية المجتمعية.

وبينت أن المساجد والجمعيات والمجالس والفرق التطوعية بالإضافة إلى أدوارها في التوعية المباشرة بحماية الموارد والمال العام، يقع على عاتقها أيضا توعية شرائح المجتمع حول أهمية الابتعاد عن التبذير والرفاهية المُبالغ فيها، وتعويد الأبناء على تحمّل المسؤولية وحسن إدارة الموارد المعيشية.

وقال الدكتور رجب بن علي العويسي خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة إن دور التعليم يكمن في بناء وعي رقابي مستدام عبر مناهجه وطرائقه وأساليب التدريس والخطط الدراسية والأنشطة والبرامج والمحتوى التعليمي ذاته، وتطبيقاتها، وفق نماذج محاكاة عملية للواقع الذي يعيشه المتعلم.

وأضاف أن تبنّي أفضل الممارسات الداعمة لتعزيز النزاهة، وترسيخ مبادئها وتأصيل قيمها وأخلاقياتها وبناء أطرها، وإعادة فرص إنتاجها في مجتمع التعليم، وتمكين الأطر التعليمية، بما تمتلكه من موجهات وفرص وبرامج ومساقات تدريسية ومناهج تعليمية وأنشطة ومساحات احتواء ومنصات التقاء تُسهم في تعظيم قيمة المال العام وأخلاقيات الوظيفة في حياة الأجيال وتنشئتها.

وأكد على أن السياسات التعليمية والتربوية تتفاعل أنشطتها نحو تحقيق هذا المبدأ من خلال جملة من الموجهات المشتركة منها، تضمين المحتوى التعليمي في المناهج الدراسية مرتكزات حماية المال العام ومفاهيم ومبادئ النزاهة من خلال دمج وتبسيط مفاهيم الشفافية والإفصاح ومكافحة الفساد وأخلاق الوظيفة العامة والشراكة الرقابية والحس الرقابي والتكامل المؤسسي الرقابي والتعاون الدولي في مكافحة الفساد وحماية المال العام، وتعزيز بناء فقه المسؤولية لدى الطلبة والأبناء وترسيخ ثقافة حماية المال العام والموارد والممتلكات العامة، وإيجاد فرص المبادرة وإعادة إنتاج الموارد والتثمير فيها بالشكل الذي يضمن توجيهها نحو الاستدامة الاقتصادية، وتفعيل دور البحث العلمي والريادة والشركات الطلابية بصفتها نموذجًا للتثمير في الموارد وحماية المال العام.

وختم حديثه بالأهمية التي يمثّلها الإعلام كونه القوة الناعمة في تعزيز الاتجاهات الإيجابية نحو حماية المال العام، وتأصيل مفهوم الرقابة والنزاهة وتأصيلها في ثقافة المجتمع، إذ تتجه بوصلة العمل الإعلامي إلى إنتاج وتعظيم القيم المعزّزة للرقابة والنزاهة سواء في محتوى الوسيلة الإعلامية وجملة المفاهيم والمفردات والمبادئ الرقابية، أو في القراءة المعمّقة لمفاهيم الرقابة والنزاهة والمساءلة والمحاسبية وحوكمة الأداء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *