"عُمان.. ودرسٌ آخر"
لم يكن يوم عاشوراء هذا العام مثل سوابقه بالنسبة لي؛ فقد أصبحتُ على خبر واقعة الوادي الكبير التي عصفت بقلب كل عماني وكل محب لعمان. يومها تذكرت، كنت في السنة قبل الأخيرة في الكلية، حين سألتني إحدى الزميلات عن مذهبي، كررت عليها عدة مرات أستوضح مقصدها، قالت: أنت سنية أم شيعية أم إباضية؟ قلت لها: والله لا أعرف! ورب الكعبة لا أعرف حتى الفرق بين الكلمات الثلاث التي نطقتِها الآن. قالت: أريني هيئة صلاتك، ففعلت، قالت: أنتِ إباضية مثلي!
وذلك اليوم كان أول عهدي بما يسمى المذاهب الإسلامية، لم أقرأ يومًا عنها في جريدة عمانية، لم أسمع عنها يومًا في قناة تلفزيونية عمانية، لم أسمع محاضرة ولا قرأت كتابًا ولا منشورًا عنها، لم تتحدث عنها كتب التربية الإسلامية في المدرسة طوال اثنى عشر عامًا، ولم يخبرني أهلي طوال ٢٢ عامًا أن هناك مذاهب أخرى نتفق معها في أمور ونتمايز في أمور أخرى توجد على بُعد كيلومترات قليلة عنا، كنتُ في تلك اللحظة بالذات أستكشف وجهًا جديدًا لديني لم يكن وطني ولا مجتمعي يلقي لها بالًا، وطني ربّانا طوال تلك العقود على وحدة الأرض ووحدة العقيدة ووحدة المصير، وتناغم الاختلاف بين الفرق والطوائف إلى حد أنني لم ألحظ وجود هذا الاختلاف حتى أصبحت شابة.
وأدرك كم سيكون حديثي هذا محط استغراب ممن لم يولدوا في عمان، ولم يعيشوا شعور أن تكون عمانيًا، عمانيًا فقط، دون الحاجة إلى علامة أخرى تفرق بينك وبين جار أو زميل أو صديق.
حتى غزا الإنترنت البيوت كلها، وصار الخطاب الديني المتطرف يصل إلى مسامعنا من دول أخرى فسّرت الدين وأولّته وفق ما يسر أهواؤها، وألصقوا به الغلو والتشدد، وأحلّت دم كل مختلفٍ عنها، فهذا رافضي وذاك خارجي، وكلهم بالنسبة لهذا المتطرف براء من أمة الإسلام!
خطاب أرضعوه لأطفالهم مع الحليب، ولقنوه أبناءهم في المدارس والجامعات والمنابر، فكانت النار التي التهمت بالتدريج الكثير من المناطق المسلمة، وأهلكت الحرث والنسل، ووجد الأعداء عبرها منفذًا مثاليًا وثغرة مواتية للانقضاض على العالم الإسلامي وتفكيكه قطعةً قطعة، كل قطعة تدّعي أنها الفرقة الفائزة، والجانب الصائب، فأريقت ملايين الأرواح في سبيل هذا التعصُّب المخزي، وتهافت العالم على بلاد المسلمين كما تتهافت الأكلة على قصعتها، وجيّشوا لهذه المآرب جماعات متعطشة للدم أطلقوا عليها “جماعات إسلامية” – والإسلام منها براء- فقتلت ونكّلّت وذبحت ومثلّت بالجثث وانتهكت الحرمات، وأظهرت انعدامًا تامًا للإنسانية في فعلها وقولها.
ولأول مرة منذ ١٩٤٨م، تنكّر الحكّام على الملأ ومن ورائهم بعض شعوبهم لقضية فلسطين، وأصبح التصالح والتطبيع مع الصهيوني باسم التعايش والسلام نهج الغبار الأعظم منهم، وبات الصامدون بجانب حق فلسطين في الأرض وتقرير المصير قِلة، وكانت عمان على رأس هذه القِلة، فأظهر التناغم الحكومي والشعبي دعمًا منقطع النظير في الوقوف بجانب الأشقاء معنويًا وماديًا، ولم ترضخ لكل ضغوط محاولات استمالتها إلى الجانب الصهيوني كما حدث مع دول الجوار، فباتت شوكًا في طريق تمدُّد مشاريع صهينة العالم العربي، وأصبحت عصية على لعبة التفريق والتدمير باسم المذهب، فبقيت أيقونة فريدة لا شبيه لها أو مثيل في منطقة الشرق الأوسط؛ لما قدمته وتقدمه من نموذج للثبات على المبدأ، والنزعة إلى السلام الدائم، والعداء الواضح لكل ما من شأنه إشعال فتيل الحروب في المنطقة، هذا الفتيل الذي يسيل له لعاب الكثير من الدول المعادية وبعض التي تسمي نفسها ب “الشقيقة”. تقف عمان راسخة بثباتٍ غير معهود في غيرها، على أرضٍ تموج بالهرج والمرج، فوق محيط من الفتن كقطع الليل المظلم، فهل سيكون مآل الحال أن تُترك وشأنها دون محاولات لإخضاعها وإجبارها على الامتثال والخنوع لمخططاتهم؟ وخصوصًا أنها تقف حجر عثرة بمحاولاتها المستميتة للجمع بين الأطراف المتنازعة في المنطقة وإحلال السلام بينها، السلام الذي يضر مصالح أمريكا وإسرائيل وأعوانهم في المنطقة.
لم تكن حادثة “الوادي الكبير” سوى حجر ألقي في بحيرة تنعم بالهدوء والسلام من أمدٍ بعيد، مرّ الحجر القذر على سطحها بسرعة تاركًا وراءه بعض الأمواج الصغيرة التي ما لبثت أن اختفت وعاد الحال إلى ما كان عليه، دون أن تتحقق للذين ألقوا الحجر غاية؛ فالذين يحسبون أن نار الفتنة يسهل إشعالها في عُمان مستفيدين من تجربتهم الناجحة في بعض دول المنطقة المنكوبة، نسوا أو تجاهلوا أن البلاد التي لم تفرق يومًا بين مواطنيها على أساس الدين أو القبيلة أو النوع الاجتماعي، والتي كبر أبناؤها وطُبعوا اجتماعيًا لآلاف السنين على التعايش والتآلف وتقبُّل الآخر وتفهُّم الاختلاف معه، ليست بلقمة سائغة في حلوقهم، بل عظم حاد مسنّن بوسعه بتر حناجرهم، ففي عُمان تجمع المذاهب الثلاثة جيرة ومصاهرة ونسبًا، لم يعكره يومًا أي معكر، فما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم، ونحن مطالبون أكثر من أي وقتٍ مضى للحذر من كل الأجندة المعادية التي حاولت وستستمر في المحاولة، لسلب أمننا وسلامنا وزجنا في ذات الجحيم الذي تقبع تحته الآن العديد من الدول العربية، ولكن هيهات هيهات، إن الوعي المستنير لدى كل إنسان على هذه الأرض، واللُحمة الوطنية التي هي جزء من دمائنا وهويتنا، ليست موضع تهديد بسبب حادث أخرق كهذا قام به مَن باعوا أرواحهم للشيطان، ونسوا جوهر دينهم الحقيقي، ورسالة نبيهم المبعوث رحمةً للعالمين، والذي جمع في رحاب شعاب مكة وسهول المدينة وجبال الطائف، كل الاختلافات، ونشر أصحابه وأتباعه من بعده هذه الرسالة، والتي – بفخرٍ عميق- نراها تتجلى في عصرنا هذا في الممارسات السياسية والاجتماعية لعُمان، في المدرسة القابوسية أولًا، وفي المدرسة الهيثمية بعدها.
إن كان ثمة ما ينبغي زرعه الآن في نطف هذا الجيل الصاعد، فهو أن عمان تأتي أولًا، وأن ما يُعمر بسواعد الباسلين والشهداء لا يجب أن تهدمه حملات مغرضة ومؤامرات دخيلة وأفكار ضالّة، وعلى الوعي أن يطرق أبواب كل البيوت، وعلى المربين أن يقفوا مع أبنائهم وقفةً جادة، وأن يكونوا الرقيب والحسيب على ما يُملأ به أدمغتهم في هذا الفضاء الرقمي الذي يزداد خطورةً يومًا بعد يوم، وأن نذكِّر أنفسنا دائمًا: سنة وإباضية وشيعة.. وطن واحد ما نبيعه.