وسائل الإعلام ودورها في تعزيز الهوية الوطنية في ضوء المستجدات المعاصرة

سعت وسائل الإعلام قبل ظهور شبكات التطور التكنولوجي إلى التمسك والحفاظ على الهوية الوطنية، نظرًا لأن القائمين على تلك البرامج كانوا حريصين على تقديم برامج توعوية فكرية ثقافية ووطنية شاملة تستهدف كافة شرائح المجتمع، مع التركيز على المحتوى الإعلامي الذي تقدمه تلك الوسائل، بهدف خلق أجيال واعية لديها شغف وطني وشعور بالمسؤولية الجماعية المشتركة إزاء قضاياها الوطنية المعاصرة.

ونظرًا لأن موضوع الهوية ليس منحصرًا ضمن موضوع الاهتمام المحلي فحسب، بل كان دائمًا موضوعًا ذا نزعة عالمية أجمعت عليه كافة التيارات الفكرية والفلسفية والعلمية، إلا أنه أثبت في كل مرة شرعية الطرح والبحث في جوانبه المختلفة، لاسيما مع انتشار العولمة من جهة واكتساح تكنولوجيا الاتصال الحديثة من جهة أخرى مما أكسب طرحه الكثير  من الجدية والزخم، الأمر الذي جعل مانويل كاستيل يصرح قائلًا:” إننا أصبحنا نعيش تنازع قوتين اثنتين من أجل تحوير العالم وحياتنا وهما: العولمة والهوية وذلك بسبب التطور التكنولوجي لوسائل الإعلام والاتصال وتبدل الرأسمالية وهذا خلق نمطًا جديدًا من المجتمع إلا وهو مجتمع الشبكات”. (لونيس، 2017، صفحة 32).

وبالرغم من أهمية الإقرار بحتمية التطور التكنولوجي وما انبثق عنه مما يعرف بالإعلام الجديد والذي أتاح للجمهور المتلقي فرصة أكبر للتفاعل مع المحتوى الإلكتروني دون الأخذ بعين الاعتبار جودة المحتوى وما يقدمه من برامج توعوية وطنية هدفها إطلاق مساحات واسعة للحفاظ على الهوية الوطنية، إلا أن بعض الوسائل الإعلامية الحديثة سعت منذ انطلاقتها إلى الترويج لبرامج خالية الفكرة والمضمون مستندة إلى فلسفة الربح المادي والتجاري غير آبهين بالهموم والقضايا الوطنية لأبناء تلك المجتمعات خاصة العربية منها والذي نتج عنها ما يعرف بالاختراق الثقافي للمفاهيم الهوياتية للشعوب والمجتمعات، والتي باتت يومًا بعد يوم تفقد شغفها وحماسها في برامجها ومناهجها ومناسبتها الوطنية، بل أصبح الحديث عنها هامشيًّا إلى حدٍّ ما؛ نظرًا لأن موضوع الهوية لم يعد المفهوم الفلسفي الذي كانت تكرسه وسائل الإعلام في برامجها وتحرص على استضافة النخب الوطنية والكفاءات العلمية من الأساتذة في كافة المراحل المهنية للأخذ بآرائهم حول موضوع الهوية، بل إن وسائل الإعلام اليوم في ظل العولمة والتطور التكنولوجي أصبحت فلسفتها الربحية والمادية تطغى شيئا فشيئًا بل أصبحت حقيقة واقعية لم تعد تميز بين الغثّ والسمين دون الالتفات إلى القضايا الوطنية التي تعيشها المجتمعات المعاصرة.

1. دور وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية

إن الدور المأمول من وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية والثقافية خاصة في ظل التحديات التي تواجهها لا تتعلق بالجوانب التقنية بقدر ما تتعلق بالمضمون القادر على أن يحتفظ بمشاهديه والعمل من خلال هدف واضح ألا وهو تعزيز خصوصية الهوية الوطنية والثقافية للمجتمعات المعاصرة. وبناءً عليه هناك عدة دراسات منها دراسة (الخضر، 2022)، (عوفي و عمراني، 2012)، (عدلي، 2023)، (بريخ، 2019)، (سنو و الطراح، 2002)، أشارت إلى أن هناك عدة أدوار أساسية تقع على عاتق وسائل الإعلام تساهم من خلالها في تعزيز الهوية الوطنية بشكلٍ متناسق ومتكامل مع باقي المؤسسات ولعل أهمها ما يلي:

  • مناقشة القضايا المجتمعية التي تهم المواطن وتشغل فكره، وتساهم معًا في وضع الحلول الناجعة لها والتي يحتاج طرحها إلى صدق وموضوعية ومهنية من خلال مشاركة مجتمعية يتعاون فيها كافة الأفراد بهدف وصف المشكلة وصولًا إلى العلاج.
  • ربط تعزيز الهوية الوطنية بتعزيز الهوية الثقافية الشاملة، وهذا لن يكون إلا بتمكين اللغة العربية باعتبارها المفتاح الذي يميز بين المجتمعات بعضها عن بعض ليس فقط في التواصل الثقافي، ولكن في الإبداع والفكر ، وأن تكون اللغة الأم حاضرة في كافة البرامج الوطنية والثقافية التي تشرف عليها الوسيلة الإعلامية أيًّا كان نوعها؛ فالحضارات الإنسانية المتعاقبة لم يسبق أن حققت أي إنجاز لها بعيدًا عن لغتها الأم.
  • عدم محاكاة الغرب وتقليده في برامجه الثقافية والفكرية في نسخ التقليد والتغريب، بل يجب أن يشرف على تلك البرامج المفكرون والباحثون والمتخصصون من أبناء الأمة، لكي يتمكنوا من تقديم رؤية استشرافية واقعية ملموسة تحاكي الواقع الوطني والثقافي المحلي بوضوح، من خلال استشراف سيرة القادة والمخلصين من أبناء الأمة.
  • يجب ألا ينحصر دور وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية على أنه دور موسمي منحصر فقط في المناسبات الوطنية، والتي غالبًا ما ينشط الحديث فيها  عن حب الوطن وبعد ذلك تعود أدراجها لبثّ ونشر برامج لا تستهدف الواقع المجتمعي في نفوس الأفراد والشعوب، ولكن ينبغي أن تتبع رؤية استراتيجية تشارك فيها المواطن واقعه وتحفيز الانتماء لديه، واستثمار الطاقات وإلقاء الضوء على الكفاءات الوطنية ورعاية الموهوبين منهم وتنمية طاقاتهم الفكرية في كافة المجالات.
  • أهمية الانفتاح على كافة الثقافات والاستفادة من علوم العصر ومعارفه الحضارية المتطورة في تعزيز الهوية الوطنية وتجسيدها وذلك انطلاقًا من عمله كوسيلة للتوعية والتثقيف والتوجيه خاصة في عصرنا الحالي والذي انتقل فيه الإعلام من ترتيبه كسلطة رابعة إلى جعله سلطة أولى في العديد من البلدان الديمقراطية حيث يسود فيها مناخ حريتي الرأي والتعبير.
  • لعب الإعلام دورًا مهمًّا في تدعيم المواطنة عبر تنمية مشاعر الولاء للوطن، والعمل على غرس القيم الدينية والوطنية والقومية والسلوكية وبناء الشخصية التي تدين بالولاء، مع إفساح المجال للمجتمع للإسهام الإيجابي في المشروعات الوطنية التي تخدم البيئة المحلية.
  • التعبئة العامة ورفع الهوية الوطنية: ينطلق دور الإعلام في الشعور بالمسؤولية المشتركة بين مكونات المجتمع وفئاته المتعددة، وإسهاماته في الحملات الداعمة لتقييم الهوية الوطنية، وتعزيز الاندماج بين كافة مكونات المجتمع في كافة الأوقات خاصة في المحن والأزمات التي يمرّ بها بلد معين لكي يتمكن من تشكيل هوية وطنية جامعة.
  • بناء الإطار الاجتماعي وتعميقه عبر الرسائل الصريحة والضمنية التي تبث في البرامج الإعلامية، حيث إنها تؤثر في تكوين الإطار الاجتماعي للهوية الوطنية بطريقتين: الأولى: وهي العمل على بناء الرموز الوطنية، وتحفيز الذاكرة الوطنية عبر تغطية الأحداث المختلفة والاحتفالات والانتخابات، وإبراز أوجه التشابه بين السكان في العادات والتقاليد والمواقف الوطنية. والثانية، العمل على تقوية العلاقة التفاعلية بين الأنا والآخر، أو بين نحن وبين الآخرين وهي بذلك تساهم في بناء روح عالمية تتسم بالتطبيع والاتساق والسلام، وهذا من شأنه أن يقوي الشعور بالأنا في مقابل الآخر

2. تأثير وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية

شكلت التطورات الهائلة لوسائل الإعلام تأثيرًا بالغًا في مفهوم الهوية الوطنية، حيث إن المدخل الأساسي لهذا التأثير  هو الاختراق الإعلامي الذي تجسد في ثقافة الصورة القادرة على تحطيم الحاجز اللغوي. في هذا الإطار سوف نستعرض أهم تأثيرات وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية والتي يمكن تناولها على النحو الآتي (مغزيلي، 2023، صفحة 326).

  • ضعف الشعور الانتماء المحلي والوطني: حيث عملت التحولات التكنولوجية على تغيير العديد من المفاهيم خاصة مع التطور المذهل والذي أدى بدوره إلى تغير شكل الاتصال وردم الفواصل بين الاتصال الشخصي والجماهيري.
  • طمس الهوية الثقافية: سعت التطورات التكنولوجية الحديثة إلى تسطيح الوعي لدى الأفراد والشعوب، بهدف ترسيخ ثقافة الاستهلاك أو كما يسميها محمد عابد الجابري بثقافة الاختراق. والتي باتت وسائل الإعلام اليوم تلعب دورًا مهمًّا في الاختراق الثقافي بين الدول والشعوب حتى أصبحت صناعة ممنهجة لغسيل الأدمغة ضمن ما يعرف بالعولمة الثقافية.
  • خلق هوية عالمية موحدة: سعت وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال إلى جعل العالم قرية واحدة وهو التصور الذي جاء به البروفيسور الكندي مارشال ماكلوهان سنة 1960م، في حين أصبح كل من يعيش في هذا العالم الرقمي الجديد عليه أن يتخلى عن مبادئه التي يؤمن بها.
  • نشر الثقافة الغربية: تمثلّ ذلك في تكريس العولمة الثقافية عبر الاختلاط الفكري بالآخرين ومسايرة الموضة خاصة فيما يخص الملابس والأكل، ومن هنا فإن تكنولوجيا وسائل الإعلام والاتصال قد عملت على تجسيد مظاهر الانحلال الأخلاقي تحت ذريعة حقوق الإنسان الشخصية والتحرر الفكري والعقلي.
  • الانتقال من الجماعية إلى الفردانية: لم تقف تأثيرات وسائل الإعلام والاتصال على الهوية الوطنية، بل استرسلت نحو تخوم التشكل المجتمعي والعلاقة الوحدوية بين أفراده والانتقال به من مجتمع جماعي يشكل وحدة وطنية إلى مجتمع فرداني يقلل من فرص الاندماج العائلي والتواصل مع الأقارب والاكتفاء بالتواصل الافتراضي الذي يدعم وجود مجتمعات متوازية تتمثل في مجتمعات شبكية افتراضية.

3. سبل تحصين الهوية الوطنية من تأثيرات وسائل الإعلام

أشارت بعض الدراسات كدراسة (مغزيلي، 2023)، (بريخ، 2019)، (أبيش، 2021)، إلى أهم الطرق والسبل التي من شأنها أن تساهم في الحفاظ على منظومة الهوية الوطنية من تأثيرات وسائل الإعلام والاتصال ولعل أهمها ما يلي:

  • تبني الاهتمام بالثقافة ومقوماتها: من خلال التمسك بالتربية الإعلامية كآلية دفاعية تساهم في تعميق الوعي المؤدي إلى التعامل العقلاني مع المحتويات الإعلامية لتكنولوجيا وسائل الإعلام الجديدة وما تتضمنه في طياتها من قيم وأفكار تحمل وسم الغرائبية عن مجتمعاتنا.
  • إعادة النظر في وظيفة الإعلام: لابد من إعادة النظر في وظيفة وسائل الإعلام ورفع الوعي بأهميتها، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها في ظل انعدام وجود سياسة قومية عربية فعالة تستهدف توجيه الإمكانيات وتوفير القدرات البشرية، وهذا من شأنه أن يؤثر سلبًا على مفهوم الهوية الوطنية لدى الكل المجتمعي.
  • التصدي للرسائل التي تسعى إلى تشويه قيم الهوية الوطنية والعمل على إضعافها بواسطة إبعاد الشخصيات الساعية إلى إثارة الفتن الطائفية بين أبناء الوطن الواحد.
  • ضمان الأمن الثقافي للمجتمع: بهدف تمكين الثقافات الوطنية من التكامل وتعريف الرأي العام العالمي بقيمتها الثقافية والاجتماعية وجلب الاحترام والتقدير لها حتى لا تكون ضحية للغزو الأجنبي والفكري.
  • تبني مبادرات تشرف عليها وتديرها جهات وهيئات متخصصة في مجال الإعلام والثقافة، بهدف تقديم تصورات واقعية من شأنها أن تنتج وعيًا ثقافيًّا ومعرفيًّا يكون قادرًا على جذب الجماهير وخدمة الهوية الوطنية.

إن غياب منظومة إعلامية عربية موحدة لها رؤية وطنية واضحة تجاه قضاياها المجتمعية فتح الطريق أمام العديد من العلماء والباحثين إلى تبني السبل والاستراتيجيات في مواجهة التحديات التي تواجهها المجتمعات المعاصرة مثل العولمة الثقافية والاختراق الثقافي، بهدف توعية الشعوب والمجتمعات بالمخاطر المحدقة التي تواجههم بين الحين والآخر، وتعبئة الطاقات والجماهير في سبيل خدمة قضاياها الحيوية كسبيل لتوعيتها ثقافيًّا وفكريًّا.

المراجع

أبيش، سمير. (2021). وسائل الإعلام وددورها في تعزيز الهوية الوطنية للشباب الجزائري في ظل تحديات العولمة الثقافية. مجلة القبس للدراسات النفسية والاجتماعية، 11(3)،ص 20-37.

بريخ، طارق. (2019). دور وسائل الإعلام والتلفزيون في تعزيز الوعي بالهوية والقضايا الوطنية. مجلة الدراسات الإعلامية، (6)، ص 210-220.

 عدلي، أيمن. (2023). دور استخدام الخطاب الإعلامي لترسيخ مفهوم الهوية الوطنية وتعزيزة في رفع الوعي المجتمعي: دراسة وصفية. المجلة العربية لبحوث الاتصال والإعلام الرقمي، (3)،ص 175-208.

لونيس، بادس. (2017). الهوية المحلية والهوية الافتراضية في ظل الإعلام الجديد. مجلة الحكمة للدراسات الإعلامية والإتصالية،5(2)،ص 128-134.

الخضر، محمد. (2022). دور وسائل الإعلام في تعزيز الهوية الوطنية والإنتماء. مجلة أصول الدين، (6)، ص 426-436.

سنو، غسان ، و الطراح، علي. (2002). الهوية الوطنية والمجتمع العالمي في الإعلام دراسات في إجراءات تشًكل الهوية في ظل الهيمنة الإعلامية العالمية (ط1). بيروت: دار النهضة العربية.

عوفي، مصطفى ، و عمراني، زينب. (2012). الهوية الوطنية في ظل تكنولوجيا الإعلام والإتصال الحديثة. مجلة علوم الإنسان والمجتمع، 1(4)،ص 15-45.

مغزيلي، نوال. (2023). الهيئة الوطنية في ظل تطورات تكنولوجيا الإعلام والاتصال: نحو إرساء هوية رقمية. مجلة دفاتر السياسة والقانون، 15(1)،ص 326-328.

د. معاذ صبحي عليوي

باحث فلسطيني – دكتوراة في الإدارة والسياسة العامة- كاتب بمجلة إشراق العمانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *