الوعي التاريخي في عصر الفوضى
تخيّل أيها القارئ العزيز أنك تصف قطع (الدومينو) بتنظيم إبداعي، وتستهلك طاقة ذهنية وبدنية لأيام طوال بليالها لإنجاز فكرة تنمو في ذهنك تدريجيا، لتأتي في لحظة ما فراشة ترفرف بجناحيها الجميلين لتلهيك لثوانٍ معدودة، تقف على رأس قطعك الجميلة، لتقرر الهرب من مراقبتك مرفرفة بجناحيها لتطيح برأس الدومينو، لتتابع القطع الأخرى تهوي واحدة، كيف ستكون ردة فعلك؟!
إن ما حدث في القصة السابقة هو ما يسميه علماء الرياضيات والفيزياء بتأثير الفراشة، حيث يدرس الباحثين في العلوم التطبيقية تأثر النظم بأي تغييرات صغيرة في شكلها، كبيرة في تأثيرها، مسببة الفوضى. وعلى الرغم من أن الفوضى في شكلها العام ارتبطت بهذه العلوم غالبا، إلا أن القارئ والمتتبع للأحداث التاريخية وما مرت به البشرية خاصة في تاريخها الحديث والمعاصر ليصل لذات المفهوم فيما يتعلق بالإدارة السياسية لشؤون الحكم. فبعد خروج الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي – سابقا – كقطبي العالم بعد الحرب العالمية الثانية (1938-1945م)، وكلاهما يسعيان لفرض هيمنة متعددة الأقطاب على العالم، ولكأن الكرة الأرضية قسمت لنصفين، وكل منهما تقول لما فرضت عليه قوتها (لا مساس)، والأمر لا زال مستمر حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في 1991م، مع محاولات القيادة الروسية استعادت أمجاد الاتحاد أو على الأقل مكاسبه السياسية والاقتصادية.
مع كل هذه الاستقطاعات عمت الفوضى السياسية قارات العالم أجمع، بتأثير الفراشة في نظرية الفوضى، للحفاظ على مصالحها ظلت هذه الدول الكبرى تلعب على هذا التأثير. وعليه فإن على الدول أن تدرك الأهمية القصوى اليوم لرفع معدلات الوعي التاريخي لدى أجيالها الصاعدة. ونقصد بالوعي التاريخي قدرة الفرد على فهم وتقييم الأحداث والظواهر التاريخية بشكل نقدي وموضوعي ليصبح الفرد قادرا على التحليل والربط بين مجريات الأحداث العالمية وكيف يمكن أن تؤثر عليه محليا، الأمر الذي يجعل منه حائط صد واعي ضد كل ما قد يؤدي لخلق الفوضى في مجتمعه، خاصة مع ثورة المعرفة ومواقع التواصل الاجتماعي التي قادت الاعلام في عصرنا الحاضر. ويمثل مبدأ البعد عن الاستقطاب واحد من مبادئ السياسة الخارجية لسلطنة عمان، إلا أنه مع الانفتاح العالمي أصبحنا جزءا من هذا العالم الصغير، وبالتالي فإن رفع معدلات الوعي التاريخي لدى الأجيال اليوم ضرورة حتمية، منطلقا من فهمهم الكامل لمفهوم الفوضى ونتائجه عليهم في المجالات المختلفة يأتي في أولوياتها الأمن الوطني.
الجدير ذكره أيضا أن الوعي التاريخي يساعد على فهم الثقافات والحضارات الأمر الذي يقود لفهم هوياتها وكيف تشكلت ليسهل التواصل معها والتعامل معها سلبا وإيجابا. فالدول التي استحدثت مثلا بعد الحرب العالمية الثانية تشكلت غالبا لأسباب قومية أو إثنية، وجعل استقطابها ورعاية مسؤولية للدول الكبرى لاستخدامها لتنفيذ سياساتها في مناطق الصراع والنفوذ في العالم، وهو أمر عملت عليه الولايات المتحدة الأمريكية منذ الثمانينات بحيث تنقل الصراع خارج حدودها باستخدام أدوات مختلفة منها هذه الدول، وعليه فالوعي بهذه الحقائق ركيزة مهمة لرفع مستويات الوعي التاريخي لدى الشعوب خاصة تلك ذات التاريخ العريق.
مثلت أحداث طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م إلا نموذج واضح لتأثير الفراشة في التغيير، فالصراع الفلسطيني مع الاحتلال الصهيوني قضية ليست بالجديدة وكم نزف الفلسطينيون بسببه، إلا أن الجديد هو الظهور البارز لارتفاع مستويات الوعي التاريخي والإنساني عالميا، فمظاهرات نيويورك و جسر لندن وبرلين وستوكهولم وغيرها من الدول ذات الثقل السياسي والاقتصادي تعكس الدور الذي يلعبه الوعي في القضاء على الفوضى التي غيبت الشعوب لسنوات طويلة، كل هذا متوازيا مع تفعيل واضح لقنوات التواصل الاجتماعي لخدمة الهدف الإنساني الشامل لوقف العدوان الغاشم وإنهاء الاحتلال، فحماس التي كان الكثيرون في الغرب يرونها منظمة إرهابية أضحت واضحة أهدافها في المقاومة وحقها الشرعي في الدفاع عن أرضها، وبلا شك فإن الفوضى العالمية الحالية فرضت سياق أولوية قضية فلسطين عالميا، وهي مرحلة ستغير ما بعدها ولن تشبه ما قبلها، وستذهب اتفاقيات ابراهام مهب الريح حتما.
في الختام، يمكننا أن نستفيد من الوعي التاريخي لفهم أن الشعوب هي العنصر الأساسي في أي مشروع سياسي، وأن القدرة على التأثير على مصيرها ومصالحها هي ما يميز بين الدول القوية والضعيفة. لا يكفي أن تكون الدولة مستقلة رسميا، بل يجب أن تمتلك أدوات الدفاع عن حقوقها ومواجهة التحديات والتدخلات الخارجية.
ومن هنا، ندرك أهمية تعزيز الوحدة الوطنية والتضامن الشعبي بين مختلف فئات ومكونات الشعب، فهذه هي القاعدة الأولى للمقاومة والصمود أمام أي محاولة للنيل من سيادة الدولة أو تقويض استقرارها. لا يمكن لأي دولة أن تحافظ على مكانتها ومصالحها إلا إذا كان شعبها متحدا ومتكاتفا ومتعاونا في مواجهة الصعاب والتحديات.
تقرير هام جدا في عصر التحولات الحالي قدمت فيه د بدريه افكارا عن اهميه غرس الوعي التاريخي في نفوس طلبة المدارس لاهميته في فهم وادراك اكبر للقضايا المحيطه بهم