المواطنة الرقمية: تحديات وآفاق في عالم التقنية الحديثة
الثورة الرقمية التي اجتاحت العالم في العصر الحديث أحدثت تغييرًا كبيرًا في حياة الإنسان، وأصبحت تهمين على كل جوانب الحياة في ظل تحكم الإمبراطورية الرقمية، رافق ذلك ظهور عالم جديد على البشرية وهو العالم الافتراضي الذي يختلف تمامًا عن العالم الحقيقي الذي نعيش فيه، فأصبحنا مواطنين نحمل هوية جديدة في هذا العالم، إذ يعيش الإنسان في وطن آخر غير الوطن الذي يوجد به حاليًا وهو الأرض، فهناك مكان آخر يجد فيه الفرد حياة تختلف عن الحياة التي نعهدها، يتعايش معها ويمارس فيها بعض متطلبات حياته، إنه العالم الرقمي هذا العالم الذي لا وجود فيه للمحسوسات، إذ يتفاعل الفرد مع بيئة افتراضية لها قوانينها وأنظمتها ومنظومتها، وتتحكم فيها العديد من العوامل تنمي تلك العلاقة بين الفرد والبيئة الرقمية، وتُسهم في بناء علاقات متعددة مع عالم جزء منه لا وجود له في الواقع.
فقد أصبحت الانترنت جزء مؤثر في حياتنا بشكل أساسي، مما دفع المشرع إلى إصدار العديد من القوانين التي تتعلق بالتعاملات الإلكترونية من أجل حماية الجميع من التعرض للإشكاليات الناجمة عن الاستخدام السي للتقنية الحديثة، وفي ذات الاتجاه ظهر فكر حديث قائم على بناء الوعي الرقمي سميت “بالمواطنة الرقمية”
وبالرغم من حداثة هذا المفهوم إلا أن الأحداث الأخيرة والتي كشف عنها الإعلام الاجتماعي، يعطي مؤشرات على حجم الإشكاليات التي تحدث في العالم الرقمي، إلى جانب تنوع أساليب الإجرام التقني والتي أصبح يعاني منها الجميع دون استثناء، مما يضعنا أمام قضية جديدة متطورة في مجال الأجرام، ويعود السبب الأول لقلة الوعي بالاستخدام المناسب للتقنية الحديثة في ظل الأنظمة والقوانين التي تنظم عملية استخدام التقنية الحديثة في مجال التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يوجه المؤسسات إلى ضرورة الاهتمام بالتربية على المواطنة الرقمية.
فالمواطنة ليست منهج يدرس، أو وحدة تدرج ضمن كتاب، وإنما هي أسلوب حياة قائم بالاعتماد على بناء مجتمع يمارس السلوكات الإيجابية وفقا لما يقتضه الواقع المعاش، والذي يعتمد على الالتزام بالقوانين والأنظمة التي وضعها المشرع، وممارسة السلوكات التي يقرها العرف المجتمعي، وحينها نكون قد وصلنا بالمجتمع إلى مستوى راقي من تبني فكر المواطنة، فعندما يكون الشأن العام يشغله الحديث عن أحدى القضايا الشائكة بالمجتمع فعلينا العودة لقراءة المواطنة، وننظر في الواقع بفكر ناقد لنبحث عن الخلل في أنفسنا حتى نستطيع معالجة مشكلاتنا، لذا فإن قضية الابتزاز الإلكتروني التي كان لها شأن في الاهتمام المحلي؛ يعود بنا إلى مصطلح المواطنة الرقمية، حينها ندرك جيداً مستوى الوعي الذي يمتلكه المجتمع بكافة فئاته تجاه كل ما يتعلق بالتقنية الحديثة.
فإذا كنا ننظر للمواطنة على أنها سلوك إيجابي نتيجة لامتلاك الفرد للمعرفة، فإن هذا السلوك بحاجة إلى قواعد وأنظمة تساعده بحيث يصبح سلوكًا مناسبًا؛ إذ تتضمن المواطنة الفكر الحديث في التعامل مع العالم الرقمي من خلال امتلاك الفرد للحقوق التي ينبغي أن يمتلكها في العالم الرقمي، والواجبات التي ينبغي أن يقوم بها، إلى جانب المشاركة السياسية والاجتماعي، والتمسك بالهوية الوطنية، والقيم والمبادئ الاجتماعية والدينية.
فالتغيرات التي يشهدها العالم في مختلف المجالات، مع التحول الحضاري نحو الثورة الصناعية الرابعة والتي تركز على الذكاء الاصطناعي والتقنية الحديثة، تدفع المؤسسات إلى ضرورة الاهتمام ببناء القدرات التقنية لدى الأفراد، وتنمية الاتجاهات الإيجابية، وبناء الوعي الرقمي بشكل يمكنهم من الاستفادة من التقنية المتاحة بشكل إيجابي.
لذا فإن المجتمع بحاجة إلى الوعي بالمواطنة الرقمية بدء من المؤسسة التربوية الأولى وهي الأسرة كونها يقع عليها عبء النشاءة الأولى، فالطفل يتعلم في البيت من خلال الممارسة، فما يشاهده من سلوك ينعكس على حياته الخارجية؛ لذا فإن دور الأسرة مهم جداً ويكون ولي الأمر على وعي باستخدام التقنية ويظهر لأبنائه الجانب الإيجابي من هذه التقنية، وفي الوقت ذاته يعمل على ممارستها كسلوك بما يشعر الأبناء بأهميتها في حياتهم اليومية، ثم يأتي دور المدرسة والتي تتولى الدور المعني ببناء المعرفة الحقيقية للطلبة، بحيث يمتلك الوعي بالقوانين والأنظمة المتعلقة بقواعد السلوك التقني، والأنظمة الدينية والقيم المجتمعية، ويمارسها في حياته بما ينعكس على الشخصية الاعتبارية للإنسان الواعي والمدرك لواقع الحياة المعاش، وعلى المؤسسة الإعلامية اليوم أن تقوم بدروها الوطني في بناء الثقافة التقنية لدى المجتمع، فهي من أسرع الوسائل وصولاً إلى فكر المواطن، وأكثر مقدرة على تغيير وبناء القناعات لدى كافة فئات المجتمع؛ حتى نتمكن من بناء حواجز أو حدود يضعها الفرد لنفسه بحيث تمنعه من اجتيازها، فكل فرد مسؤول عن تصرفاته وسلوكياته التي يقوم بها، ويتحمل كافة الأعباء الناتجة عن سُوء الاستخدام.
فالمواطن الرقمي هو الذي يمتلك الثقافة الرقمية التي تعينه على الاستخدام الفاعل للتقنية الحديثة، والاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة في هذا الفضاء التقني الواسع، فلا يمكن أن نحرم أنفسنا أو أبناءنا من التفاعل الإلكتروني، والانفتاح على هذا العالم، والتعرف على الثقافات المتعددة، واكتساب المعرفة من مصادرها المتنوعة، وبناء علاقات وحوار الحضارات بين الشعوب والأمم، في ضوء مجموعة من الأطر التي يجب أن يتحلى بها المواطن الرقمي، ومنها ما يرتبط بقواعد السلوك الرقمي، واحترام ثقافات الشعوب والحضارات، والالتزام بالمبادئ الدينية والأعراف المجتمعية، والمحافظة على الهوية الوطنية، والتقيد بالأمانة الفكرية، والاحتفاظ بالحياة الخاصة كمفهوم يدفعه للانضباط، فلا تصبح صفحاته على الإنترنت بوابة للدخول إلى حياته الخاصة والتعرف عليها، وضرورة امتلاكه لمهارة الوقت بحيث يتحكم في الفترة الزمنية التي يقضيها في التفاعل الإلكتروني بما لا يضر بصحته أو بأدواره الوظيفية والمجتمعية، إذ يشعر بالمسؤولية تجاه كل السلوكيات التي تصدر منه أثناء استخدام هذه التقنية وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي، بحيث يعطي الصورة الحقيقية للتعامل الحضاري في عالم متغير، نحتاج إلى أن نكون قادرين على التفاعل والتعامل معه وفقا لمقتضياته المستحدثة.