دور الأسرة والإعلام في تشكيل القيم الاجتماعية: تأثيرات متبادلة ومسؤوليات مشتركة

إن الأسرة هي الدرع الحصين وأساس المجتمع، ومصدر الأخلاق، والدعامة الأولى لضبط سلوك أفرادها، والإطار الذي يتلقى منه الإنسان أول دروس الحياة الاجتماعية، ويتعلم القيم والأخلاق الحميدة.

وقد حثنا ديننا الحنيف، بل وألزم الأسرة بأن تقوم بدورها في التربية، وغرس الدين والأخلاق في نفوس الأبناء؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها. ففيها-أي الأسرة- يترعرع الطفل وينمو، ويتعلم أبجديات الحياة الأولى، ومنها يستمد قيمه وأسس حياته التي سيستمر عليها، فالأسرة تحدد النظام التربوي الذي ينشأ عليه الأبناء ويشمل هذا النظام تفاعل الأسرة مع الإعلام والتربية الإعلامية.

احتلت وسائل الإعلام مكانة واسعة في حياة الأفراد، ومؤثرا كبيرا في حياتهم فوسائل الإعلام تمثلُ جزءًا هامًا من البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات، لما لها من أثر فعال على القيم والمعتقدات والممارسات الاجتماعية والعلاقات الأسرية، وتوجيه السلوك الاجتماعي والثقافي والقيمي. والإعلام أداة تُستخدَم لنقل المعلومات والأخبار والأفكار، وهي أحد أهم العوامل التي تؤثر في التواصل والتفاعل في المجتمعات. فالإعلام هو القوة الفعلية والتي تؤدي إلى تغيير معتقدات الأفراد أو تعزيزها.

وبما أن وسائل الإعلام سواء كانت وسائل بصرية أو سمعية أو لفظية أو كتابية تصل إلى جمهور كبير، وهي  إحدى أهم القوى المؤثرة في الثقافة الحديثة، نلاحظ أن لها أهمية كبيرة بل ودور قيادي – إن صح التعبير- في المجتمع؛ كيف لا وهي تلعب  دورًا هامًا في تحديدِ وتشكيلِ الأفكار والقيم والمعتقدات لدى الأفراد، فنرى أن الأسرة تتأثر بالوسائل الإعلامية المتنوعة من خلال العديدِ من الآثار الإيجابية والسلبية، فالإعلام سلاح ذو حدين ؛ إما أن يكون له أثر إيجابي من خلال تقديم محتوى يتعلق بالتنشئة السليمة والتربية والصحة العائلية والعادات الإيجابية للذات، وزيادة الوعي والمعرفة وتوفير فرص التواصل والتعلم، وتقديم نصائح توعوية، والتواصل العائلي، والتعامل مع الحياة الزوجية، وبناء الذات والقدرات وغيرها من المواضيع والأفكار ذات الصلة بالأثر الإيجابي، و توجيه الأسرة، وتعزيز مهاراتها ومعرفتها في مجالات مختلفة. وإما أن يكون هذا التأثير سلبيًا؛ من خلال تأثير بعض أنواع وسائل الإعلام الحديث على قيمِ وسلوكياتِ وعلاقاتِ أفراد الأسرة، والتركيز على التفكك الأسري والانحلال الأخلاقي، فضلاً عن أثرها في تربية الأطفال بعيدًا عن القيم السائدة في الأسرة والمجتمع.

كثيرا ما يدور في ذهن الأهل هل نمنح أم نمنع وسائل الإعلام والاتصال لأبنائنا؟ إلا أن الأسر تستدرك استحالة تجنب أو منع تعرض الأبناء لوسائل الإعلام بصوره المختلفة، لذا يجب على الأسرة قبل أن يبدأ الأبناء في استخدام وسائل الإعلام تعليمهم طريقة الاستخدام الصحيحة ، وتأهيلهم للتفاعل الإيجابي عن طريق التربية الإعلامية السليمة، فوسائل الإعلام تعطي جرعاتٍ من القيم الفكرية التي تجعل الأمر مألوفًا ويُغرس تدريجياً من خلال انتقاله عبر وسائل الإعلام المتنوعة، حيث يتأثر المتلقي دون وعي بما تعرضهُ وسائل الإعلام بشكل متواصل، مع تكرار المناظر المخالفة للقيم وصور العنف المخلة بالذوق العام عبر هذه الوسائل يُغرس ويَصْنع إنسانًا بمعتقدات وقيم كما يريده هو – أي الإعلام- لا كما تريد الأسرة والمجتمع.

وإذا ما تحدثنا عن أثر الإعلام ومدى تأثيره على الأسرة نجد أنه أولا يؤثر على الاتصال والتفاعل العائلي؛ فالاستخدام المستمر يقلل من الوقت المخصص للتفاعل العائلي، والأفراد قد ينغمسون في استعمال الوسائل الإعلامية بكثرة، مثل التلفزيون والهواتف الذكية، مما يؤدي إلى الإدمان ويقلل التواصل المباشر بين أفراد الأسرة، مما يؤدي بدوره إلى ضعف الروابط الأسرية. ثم نجد ثانيا أنه يؤثر على المبادئ والقيم والمعتقدات، لأن الأسرة تتعرض لمحتوى إعلامي يحمل مبادئ وقيم ومعتقدات مختلفة، قد يكون لها تأثير في تشكيل وتغيير مبادئ وقيم الأسرة وآرائها، مما يؤدي ذلك إلى توتر جو الأسرة وتباين في قيم أفراد الأسرة. ثم نجد أثره ثالثا على التربية والتعليم، فرغم كون الإعلام مصدر جيدا للمعرفة والتعلم- إن أحسن استخدامه-، إلا أنه قد يؤثر على عملية التربية والتعليم في الأسرة، فقد يتعرض الأطفال لمحتوى غير مناسب أو ضار، ويمكن أن يؤثر ذلك على تطورهم النفسي والاجتماعي والقيمي والديني، كما قد يؤدي إدمان وسائل الإعلام إلى انخفاض التركيز وتراجع القدرة على التفكير النقدي. ولا يخفى علينا أثره رابعا على تنظيم الوقت، فوسائل الإعلام الحديثة تأخذ الكثير من الوقت، وتؤثر على تنظيم الحياة العائلة، ويقل تفاعل الأسرة، بل وتندثر الجلسات الأسرية مما يُؤدي بدوره إلى ضعف الروابط الأسرية وتقليل الفرص التواصل الأسري.

وإن كان دور وسائل الإعلام كبيرٌ في مجتمعاتنا، إلا أن الأسرة أيضا لها دور كبير – قد يزيد وقد ينقص- في التأثير على دور هذه الوسائل؛ فالأسرة لديها القدرة على قبول أو رفض المعلومات والتأثيرات الإعلامية؛ حيث يمُكن للأسرة أن تَستخدم وسائل الإعلام بشكل إيجابي لتعزيز الاتصال بالتقنية الحديثة والتعلم وتعزيز قيمها الخاصة. لذا فإنه من الضروري تزويد الأسرة بالإجراءات والخطوات التي تساعدها في إكساب أفرادها منذ طفولتهم المبكرة مهارة التفاعل الواعي مع وسائل الإعلام، بحيث يصبحون مؤثرين بها أيضا وليس فقط مجرد متأثرين، وهذه درجة عالية من الوعي والفهم والادراك لابد أن يستوعبها الوالدان.

  إن دور الأسرة الحيوي ومسؤوليتها في تدريب أبنائها منذ الصغر على التحدث عن أثر وسائل الإعلام وخطورتها، ويستمر هذا في جميع مراحل نموهم، حتى إذا أصبحوا شبابا؛ صاروا قادرين بكفاءة على نقدها، وتحليل مضامينها، ثم يتمكنوا من استخدامها بنضج وذكاء؛ لإيصال أفكارهم وتطلعاتهم ونموذجهم الذي يمثلهم إلى المجتمع؛ ليتحمل المجتمع مسؤولياته اتجاه الشباب، ويساعده في تحقيق هذا النموذج.

فهذه التربية الإعلامية -كما أفضل أن أسميها- من شأنها أن تنقل الأسرة إلى حالة استثمار لوسائل الإعلام، وعدم الاقتصار على نقد المحتوى، بل تستخدم هذا المحتوى بتحويله إلى أداة تثري ملكة النقد عند الطفل، والقدرة على الاختيار، ومهارة الحوار، واستخدام المنطق في الحكم على الأشياء.

إن من أهم وظائف الأسرة وعيها بأولويات التربية النفسية والاجتماعية السوية وتطبيقها على الأبناء، وتحصين الأبناء ضد كل السلبيات الممكنة سواء على المستويين الاجتماعي أو الإعلامي، على أن يتفق الوالدان على أولويات للتربية الإعلامية، وبذلك يستطيع الفرد تكوين صورة ورؤية واضحة حول الصواب والخطأ، وتكوين أفكار ومعتقدات سوية تمكنهم من مواجهة وسائل الإعلام. فلابد من وجود قدر من الاتفاق بين الوالدين في التربية الإعلامية، والاهتمام، وتوفير الدعم العاطفي للأولاد، ومقاومة عرض كل ما يتعارض مع القيم الدينية والاجتماعية والقواعد الأخلاقية الإنسانية سواء في وسائل الإعلام المحلية أو العالمية، والمشاركة الفعالة في مضمون وأساليب الرسائل الإعلامية.

ومن الأهمية التربوية الأسرية كذلك تلبية الاحتياجات التربوية والنفسية للأبناء، والوعي بمراحل النمو المختلفة وسرعة التطور العقلي والاجتماعي للأبناء ومواكبة الأسرة لهذا التطور، فاحتياجات الطفل الصغير من دعم وتربية تختلف عن احتياجات المراهق، مع الوضع في الاعتبار تعزيز العلاقات الأسرية بالحوار الإيجابي المثمر الذي يعزز التواصل، ويوفر بيئة أسرية آمنة يسودها الحب والدفء العاطفي، مع ترك مساحة حوارية للتنفيس والتعبير عن المشاعر والاحتياجات وتوضيح وجهات النظر بين أفراد الأسرة الواحدة بهدوء ورحابة صدر.

إذن لابد أن يكون دور الإعلام مربي ومساند لدور الأسرة، لما له من أثر قوي على معتقدات وقيم الأبناء، كما يجب أن يتم التعامل مع وسائل الإعلام بشكل صحيح ومتوازن، وضمان وجود توازن بين الاستخدام الصحيح للإعلام والحفاظ على الروابط العائلية القوية والصحة النفسية لأفراد الأسرة.

د. حليمة إبراهيم الفيلكاوي

أستاذ مشارك- قسم علم النفس- كلية التربية الأساسية الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب-الكويت كاتب بمجلة إشراق العمانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *