الهوية الوطنية في مواجهة العولمة: صمود القيم في عصر التغيرات
أصبحت المجتمعات المحافظة مستهدفة بشكل مباشر ومتعمد لتوجيهها نحو تغيير مسارها وفقًا لإيديولوجيات وتوجهات عالمية تهدف إلى إنشاء شعوب تفتقر إلى الهوية الوطنية والقيم الاجتماعية والمبادئ الأخلاقية. تسعى هذه التوجهات إلى تفريغ المجتمعات من ثقافتها، وجعلها تنظر إلى الحياة بنظرة مادية بحتة، حيث تسود الفردية وتغلب المصالح الذاتية، وتقوم العلاقات على مبدأ الأخذ والعطاء فقط. تهدف هذه الأيديولوجيات إلى تغييب القيم الإنسانية، وهدم المبادئ والأخلاق الفاضلة، وتقويض أسس الدين وقيمه، وتحويل الإنسان إلى كيان مادي بحت، ذو نظرة ضيقة للحياة وتفكير محدود جماعيًا. هذا يسهل السيطرة على توجهاته بما يخدم مصالح المؤسسات والمنظمات والكيانات السياسية والاقتصادية العالمية، التي تسعى لدعم التوجهات المنحرفة عن الفكر الأخلاقي.
في ظل هذه المتغيرات العالمي فإن مستقبل المجتمعات التقليدية التي تحافظ على كيانها وموروثها الحضاري يواجه تحديات كبيرة، ومن أبرز هذه التحديات الصراع الثقافي والتحول الاجتماعي، حيث تتعرض لضغوطات لإعادة النظر في ممارساتها الثقافية والاجتماعية لمواكبة العصر، وسوف يكون من الصعب الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية وسط تزايد العولمة والتأثيرات الأجنبية، مما قد يؤدي إلى فقدان الهوية الوطنية؛ فلماذا هناك توجه نحو التأثير في ثقافة المجتمعات وهويتها الوطنية؟
تتجلى الهوية الوطنية في الخصائص والمميزات التي تميز أفراد المجتمع عن غيرهم، حيث تشكلت عبر الأزمنة من الموروث الحضاري والثقافي، وتتضمن الهوية الوطنية العادات والتقاليد الشعبية، والزي الرسمي، والمظهر الخارجي، إضافة إلى الانتماءات الوطنية، اللغات واللهجات، ونمط التربية والدين، والأسماء ومكان الإقامة، بالإضافة إلى السلوكيات الشخصية وأساليب التعامل مع الآخرين، وأسس التعامل مع الشعوب والمجتمعات الأخرى، وطرق التعاطي مع المواقف والأحداث، وتعتبر الهوية الوطنية من الثوابت التي يتمسك بها المواطن العماني باعتبارها جزءًا أساسيًا من حياته، مما يعكس قوة الروابط والصلات الوطنية التي تربطه بوطنه وتاريخه. ولكن الهوية الوطنية في الوقت الحاضر تعاني من تأرجح مستمر بين التأثيرات المتعددة، ما يثير قلقًا بين الأفراد والمجتمعات، ويشكل تحديًا تاريخيًا وحضاريًا يدفعنا للاستفهام عن طبيعتها الحقيقية وقدرتها على التكيف مع التحولات الفكرية المعاصرة.
فأدى استيراد الأفكار والتوجهات العالمية إلى زيادة شعور أفراد المجتمعات بالاغتراب والعيش في غربة ذاتية وفقدان الهوية، لذا يجد الفرد نفسه في صراع دائم بين التوجهات العالمية والضوابط المجتمعية، وغير قادر على التوازن بين التمسك بالإرث الحضاري والقيمي والأخلاقي لمجتمعه وبين التوجه المادي نحو الانفتاح العالمي الذي تفرضه إفرازات العصر الحديث وتحولاته الرقمية والعالمية، هذا الوضع أدى إلى شعور بالانقسام الداخلي للفرد والرغبة في الانفصال عن الهوية الوطنية، كما أن ضعف الشعور بالانتماء والهوية تجاه الوطن كان أحد النتائج الرئيسية لهذه التحولات العالمية، حيث ساهمت الوسائل والأدوات والأفكار والإغراءات المنشورة عالميًا في جذب بعض الأفراد بسهولة نحوها، مما جعلهم يتمسكون بها وفي بعض الأحيان ينادون بها بدل الهوية الوطنية، هذا الأمر أدى إلى إضعاف انتماء الأفراد نحو وطنهم ومجتمعاتهم.
ونتيجة لهذه التحولات العالمية جاءت التوجيهات السامية لجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- حول أهمية دور المجتمع ومؤسساته المتنوعة في تعزيز الهوية الوطنية. إذ أكد في خطابه على ضرورة تعزيز القيم الوطنية والمحافظة على الهوية الثقافية والدينية للمجتمع من خلال دعم المؤسسات التعليمية والاجتماعية والثقافية لتلعب دورًا أكبر في تعزيز الانتماء الوطني وترسيخ الهوية، إذ أكد في خطابة على “إننا إذ نرصد التحديات التي يتعرض لها المجتمع ومدى تأثيراتها غير المقبولة في منظومته الأخلاقية والثقافية؛ لنؤكد على ضرورة التصدي لها، ودراستها ومتابعتها، لتعزيز قدرة المجتمع على مواجهتها وترسيخ الهوية الوطنية، والقيم والمبادئ الأصيلة، إلى جانب الاهتمام بالأسرة؛ لكونها الحصن الواقي لأبنائنا وبناتنا من الاتجاهات الفكرية السلبية، التي تخالف مبادئ ديننا الحنيف وقيمنا الأصيلة، وتتعارض مع السمت العُماني الذي ينهل من تاريخنا وثقافتنا الوطنية.“
ويؤكد جلالة السلطان هيثم بن طارق -أعزه الله- على أهمية التصدي للتحديات التي تهدد القيم الأخلاقية والثقافية للمجتمع العماني، مشدداً على ضرورة دراسة هذه التحديات ومتابعتها لتعزيز الهوية الوطنية والقيم الأصيلة. كما يؤكد على دور الأسرة كحصن واقٍ للأجيال الجديدة ضد التأثيرات الفكرية السلبية التي تتعارض مع مبادئ الدين الحنيف والقيم العمانية المتجذرة في التاريخ والثقافة الوطنية، داعياً إلى الاهتمام بالأسرة لتعزيز هذا الطابع الأصيل في مواجهة التوجهات العالمية التي قد تضر بالمجتمعات المحافظة.
فالدعوة للتمسك بالهوية الوطنية هي واجب حضاري يساهم في بناء مواطن فاعل في المجتمع، ولا تعني الانغلاق عن العالم الخارجي أو رفض التقدم الذي يتميز به، بل على العكس نحن مطالبون بالمسايرة للعالم والاستفادة من التقدم العلمي والتقني والمعرفي الذي تحققه الدول الأخرى، مع العمل على مشاركتنا في هذا التقدم وتبادل المعرفة والخبرات. في الوقت نفسه يجب المحافظة على العناصر الرئيسية للهوية الوطنية، التي تمثل جزءًا لا يتجزأ من الوطن الذي ننتمي إليه، مثل القيم والتقاليد واللغة والثقافة، لضمان استمرارية الهوية والتفاعل البناء مع التحديات العالمية المعاصرة.
فالتطور التكنولوجي السريع سيفرض نمط حياة جديد يتطلب التوازن بين الاستفادة من التكنولوجيا والحفاظ على القيم التقليدية، ويستلزم تعزيز التعليم والوعي لمواجهة التحديات الحديثة، ولتحقيق الاندماج دون الذوبان، يجب على المؤسسات تبني استراتيجيات توازن بين التحديث والحفاظ على الهوية، مع التركيز على تعزيز القيم الإنسانية والاجتماعية التي تصمد أمام التغيرات.
فتعزيز هذه الهوية يمثل ركيزة أساسية في بناء وتقوية الانتماء للوطن، وصون القيم والتقاليد التي تميزنا كشعب، وعلى مؤسساتنا التربوية والدينية والأسرية العمل على إيصال رسالة واضحة للأجيال الجديدة بأن الهوية الوطنية ليست مجرد رمز، بل هي موروث حضاري نحن فخورون به ونعتز به. لذا علينا أن نحافظ على تلاحمنا وقوتنا كمجتمع، ونمضي قدماً نحو مستقبل مشرق مبني على التفاعل البناء مع التحديات العالمية، مع ضمان استمرارية وتطوير هذه الهوية التي تمثلنا جميعاً.