القبلية والمواطنية: من تعزيز الهوية إلى إشكاليات العصبية
القبيلة تشكل أساسًا حيويًا في بنية المجتمع، وتضطلع بدور كبير في تعزيز تماسكه ووحدته، وكانت القبائل تاريخيًا فخرًا للعرب ومنبعًا لحضارتهم وأصلهم، وأسهمت بفاعلية في الدفاع عن الوطن، وفي عمان تركت القبائل بصمة عميقة على مر العصور، حيث لعبت دورًا جوهريًا في بناء الحضارة ودفع عجلة التقدم، وكانت تجسد روح العمل الوطني والتضامن الجماعي. وخلال فترات الاحتلال كانت القبائل وتحالفاتها قوة أساسية في مقاومة وطرد المحتلين، وأسهمت بشكل كبير في حل العديد من القضايا المرتبطة بالوحدة الوطنية، مما يؤكد دورها الحاسم في الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
وفي السياق المجتمعي تعد القبيلة مصدرًا رئيسيًا للتعلم والمعرفة، وتلعب دورًا بارزًا في تعزيز الهوية الوطنية والسمت العماني، وتسهم القبيلة بشكل كبير في ترسيخ العادات والتقاليد لدى الأجيال الناشئة، من خلال دورها كمؤسسة مدنية تحافظ على الكيان الجماعي وتدعمه. كما تعمل على تأطير الثقافة والموروث الحضاري عبر مجموعة متنوعة من الفعاليات الاجتماعية التي تعزز الروابط بين أفراد المجتمع، وبفضل هذا الدو، تستمر القبيلة في المحافظة على التراث الثقافي والحضاري، وتسهم في بناء مجتمع متماسك ومتجذر في قيمه وتقاليده.
إلا أنه في بعض الفترات من التاريخ العماني، كانت القبيلة سببًا في ضعف الدولة وانهيارها، حيث سادت التعصبات القبلية والنعرات الجاهلية، وانقسم المجتمع العماني إلى حزبين؛ أحدهما تقوده قبيلة الغافرية والآخر تقوده قبيلة الهنائية، نتيجة الخلاف السياسي على نظام الحكم في تلك الفترة، لعبت القيادات المتعصبة والجاهلة دورًا كبيرًا في تأجيج هذه الانقسامات، مما أدى إلى تفضيل العصبية القبلية على الوحدة الوطنية.
فسادت الفوضى والصراعات الداخلية بين أبناء الشعب الواحد، مما أضعف الجبهة الخارجية وجعل الوطن عرضة للأطماع الأجنبية والغزو من جهات مختلفة، ونتيجة لذلك فقدت الدولة مساحات كبيرة من أراضيها، بينما ظل الداخل ملتزمًا بالتعصب القبلي، كان هذا التعصب سببًا رئيسيًا في ضياع الشعب وانقسامه إلى أحزاب تتصارع من أجل التعصب الفكري والقبلي، مما أدى إلى تدهور الاستقرار الوطني وإضعاف كيان الدولة، وتعكس هذه الفترات من التاريخ خطورة العصبية القبلية وتأثيرها السلبي على الوحدة الوطنية والاستقرار.
إنّ العصبية القبلية تُعدّ من أخطر التحديات التي يمكن أن تواجه أي مجتمع، حيث تؤدي إلى تقسيمه وتفتيت وحدته، في الفترات التي شهدت فيها عمان هذه العصبية، كانت النتائج كارثية حيث تغلبت الانتماءات القبلية على الولاء الوطني، مما أدى إلى ضعف الدولة وفقدان أراضٍ وموارد هامة، لقد تسببت هذه الانقسامات في خلق بيئة من الفوضى والصراعات الداخلية، ما جعل البلاد عرضة للتدخلات الخارجية والأطماع الاستعمارية.
وتعكس هذه الأحداث أهمية الحفاظ على الوحدة الوطنية وتجنب العصبيات الضيقة التي تقود إلى الدمار والانقسام، ويجب أن يكون الدرس المستفاد من هذه الفترات هو تعزيز القيم الوطنية والابتعاد عن كل ما يمكن أن يهدد التماسك الاجتماعي، لتحقيق مستقبل مستقر ومزدهر للدولة والمجتمع.
في الوقت الحاضر نعيش في دولة المؤسسات والقانون، حيث يعتمد النظام الأساسي على العدل والمساواة، وينظم العلاقات بين الأفراد بما يحقق التضامن الوطني. ويعبر المواطنون عن انتمائهم وولائهم للوطن، إذ عمل جلالة السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- على معالجة التعصبات القبلية، مما أدى إلى دمج الفكر القبلي مع الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقانون، التي تقوم على النظام والعدل.
هذه الدولة تعمل على توجيه المواطنين نحو أهداف وطنية تعزز رفعة ومكانة الوطن، وتعزز العمل والانتماء الوطني، وتسعى لغرس روح الأمانة والإخلاص لعمان، وتحارب الاستبداد والسيطرة والتخلف والتعصب، كما تعمل على استغلال الموارد الطبيعية والقوى البشرية والمهارات العقلية لتطوير البلاد وصناعة عهد حديث.
وتسهم الدولة في تحديد الأنظمة والمسؤوليات وصياغة الأطر العامة للعمل الوطني، مما يُشكل مجتمعًا مدنيًا قادرًا على القيام بواجباته والحفاظ على سلامة وأمن الوطن، هذا النموذج يسعى لتحقيق التقدم والازدهار عبر بناء مجتمع عادل ومتكاتف، يتعاون فيه الجميع لتحقيق مستقبل أفضل لعمان.
وفي عهد جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه-، استمرت مسيرة البناء والتطوير على نهج دولة المؤسسات والقانون. عمل جلالة السلطان هيثم على تعزيز المبادئ التي أرساها السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله-، من خلال تعزيز العدالة والمساواة وتنظيم العلاقات بين الأفراد بما يعزز التضامن الوطني.
واليوم…. بينما تعيش السلطنة أزهى أيام نهضتها العظيمة، حيث أصبح التعليم أحد أبرز إنجازات هذا الوطن، ولم يبقَ في البلاد أحد إلا وحصل على حقه من التعليم والثقافة المعرفية التي تساعده على التعامل مع المواقف والأزمات وإدارة مشكلاته بالمنهجية المناسبة، نجد للأسف بعض الأفراد ينادون بنعرات الجاهلية والعصبية القبلية، ويسعون لتشكيل تجمعات قبلية رجعية تزرع الشقاق والبغضاء بين أفراد المجتمع العماني.
هذه التصرفات غير المسؤولة تأتي من أفراد لا يدركون خطورة أفعالهم ولا سيئاتها، فهم يخالفون الأنظمة والقوانين بشكل سافر، وكأنهم يعيشون في دولة بلا قانون أو نظام، إن هذه الأفعال لا تهدد فقط وحدة المجتمع وتماسكه، بل تعرقل أيضًا مسيرة التقدم والازدهار التي تشهدها السلطنة، ويتعين علينا جميعًا التصدي لمثل هذه الظواهر بحزم، والعمل على تعزيز الوحدة الوطنية، واحترام القوانين، والمضي قدمًا في بناء مستقبل أفضل لعمان وأجيالها القادمة.
في الوقت نفسه، تشهد هذه التجمعات القبلية حضورًا كبيرًا، مما يكشف عن فجوة كبيرة في الفهم الحقيقي للمواطنة، حيث أصبح نداء القبيلة أقوى من نداء الوطن، فهؤلاء الأفراد يتعمدون مخالفة النظام، مما يبرز خطورة هذه التجمعات التي أصبحت جزءًا من الماضي، ويجعل الوطن في غنى عن مثل هذه التصرفات التي لا تصدر عن مواطنين مسؤولين عن تصرفاتهم وسلوكياتهم، والمثير للاستغراب أن من يتصدر هذه النعرات هم أحيانًا من أصحاب الثقافة والمعرفة، إذا كانوا حقًا مثقفين أو متلبسين بها.
لقد صُدم الشارع العماني بمثل هذه التصرفات التي تتناقض مع مبادئ دولة المؤسسات والقانون، وتتعارض مع الوحدة الوطنية والعمل من أجل عمان، هذه التصرفات تعتبر تحديًا للقانون وتتعارض مع مفهوم المواطنة المسؤولة، التي يشعر فيها المواطن بدوره الحقيقي في الحفاظ على أمن الوطن ومدخراته ومنجزاته. والعمل تحت قيادة القبيلة يُعد تعصبًا نرفضه اليوم، ولا يمكن السماح بمرور هذا التعصب القبلي دون إيجاد حلول تمنع تكراره.
من المؤسف حقًا أن نجد أنفسنا في هذا العهد الحديث، ومع ذلك ما زلنا نعاني من أمراض الجاهلية التي ترسخت في أذهان بعض شبابنا ومثقفينا، هذه التجمعات القبلية التي يروج لها عبر الفضاء الإلكتروني لا تساهم إلا في تعميق الانقسامات وتفتيت الوحدة الوطنية، ويجب علينا أن ندرك أن الولاء يجب أن يكون للوطن أولاً وأخيرًا، وأن نعمل جميعًا على تعزيز مبادئ دولة المؤسسات والقانون، والتصدي بكل حزم لكل ما يهدد أمن واستقرار عمان، إن الطريق نحو مستقبل مشرق ومستدام يمر عبر تعزيز الوحدة الوطنية والابتعاد عن العصبيات الضيقة، والعمل معًا من أجل رفعة وتقدم وطننا الغالي.