القيادات المؤسسية بين وهم الإنجازات والعمى الإداري: مسار النرجسية وتبعاتها
كثيرة هي لحظات الوهم التي يعيشها الإنسان، محاولًا البحث عن ذاته بين تقلبات الزمن، دون أن يحقق أي تغيير حقيقي. يظل متوهمًا أنه يسير في الاتجاه الصحيح، وأن بوصلة إنجازاته مضبوطة، وأنه قد حان وقت جني ثمار أعماله، لكن تلك الأعمال لا تجلب له سوى خيبات الأمل المتكررة والخوف من الاقتراب من الحقيقة.
في رحلة البحث عن الذات غالبًا ما يجد الشخص نفسه متورطًا في شبكة معقدة من الأوهام التي تزين طريقه، إنه يعتقد أنه على وشك الكشف عن حقائق عميقة، ويتقدم للأمام بثقة لا تتزعزع، مقتنعًا بأن البوصلة التي ترشده لا تشوبها شائبة، وأن لحظة جني ثمار جهوده وشيكة، هذه الصحوة تدفعه إلى دوامة من الخوف والارتباك، حيث يحل الارتباك والشك محل اليقين في اتجاهه.
وبينما يتعمق أكثر يدرك أن الطريق إلى اكتشاف الذات ليس خطيًا، ولكنه متاهة معقدة حيث يحمل كل تطور وتحول رؤى محتملة، وإن الأوهام التي بدت وكأنها تضلله ذات يوم أصبحت الآن بمثابة علامات ترشده نحو فهم أكثر أصالة للذات والوجود في احتضان حدوده والطبيعة العابرة لإنجازاته، فيجد بوصلة لا تشير إلى التحقق الخارجي، ولكن إلى الحقيقة الداخلية التي ترسي كيانه وسط تيارات الحياة المتغيرة باستمرار.
فيظل الإنسان في دوامة التردد والشكوك، محاصرًا بين أحلامه الكبيرة والواقع القاسي، يحاول إقناع نفسه بأن الطريق الذي يسلكه صحيح، وأنه لا بد أن يصل إلى أهدافه يومًا ما. إلا أن مرور الوقت دون تحقيق تقدم حقيقي يتركه في حالة من الارتباك، غير قادر على كسر القيود التي تعيق خطواته، فيجد نفسه مترددًا بين الرغبة في التغيير والخوف من المجهول، عاجزًا عن اتخاذ قرار حاسم يمكّنه من الخروج من دائرة الوهم إلى واقع ملموس.
بين تلك المتغيرات التي تتنازع داخله وما يُتوقع منه تحقيقه، يجد الفرد نفسه تائهًا بين الأوهام، غير قادر على تحديد مسار واضح يمكّنه من الوصول إلى أهدافه المنشودة، يعاني من قصور في التفكير وفوضى في اتخاذ القرارات، مما يجعل التخطيط السليم وتحديد المسار الصحيح أمرًا صعبًا، هذه العوامل تدفعه إلى التعايش مع واقع وهمي، حيث يعتقد أن ما يقوم به من أعمال هي إنجازات حقيقية، بينما الحقيقة تختلف كثيرًا عن ذلك.
ومع مرور الوقت تزداد هذه الحالة تعقيدًا، إذ يواجه الإنسان صعوبة أكبر في التمييز بين الواقع والوهم، يجد نفسه محاصرًا بتوقعات المجتمع وأهدافه الشخصية غير الواضحة، يبدأ الشعور بالعجز يتسلل إليه، مما يجعله يتجنب اتخاذ خطوات جريئة نحو التغيير، هذا الجمود يمنعه من تطوير قدراته وتحقيق طموحاته الحقيقية، وما يزيد الأمر سوءًا هو افتقاره للدعم والتوجيه المناسبين، مما يؤدي به إلى البقاء في دوامة من الأوهام والخيبات دون أن يحقق التقدم الذي يسعى إليه.
في خضم صراعه الداخلي ومحاولته إجبار الآخرين على الاقتناع بأنه يحقق إنجازات عظيمة، يبدأ بمحاربة أي محاولة للنقد البنّاء التي تسلط الضوء على الإشكاليات والأخطاء التي يرتكبها، ومع امتلاكه للسلطة والقوة والتبعية العمياء ممن يسعون لنيل رضاه، يسعى لإقصاء العقول النقدية التي ترى ما يعجز هو عن رؤيته من حقائق الواقع، يظل معتقداً أنه قد ضبط مسار الإنجازات، لكنه يبقى محاصرًا بين وهم الإنجازات وفشل التخطيط، ومع مرور الزمن تتفاقم هذه الحالة حيث تزداد العزلة بينه وبين الحقيقة، يبدأ بتبني نهج الدفاع المستميت عن أفعاله وإنجازاته المزعومة، رافضًا الاستماع إلى النقد أو مراجعة مساراته، يتوهم أنه يسيطر على الأمور، بينما يتسبب في إقصاء العقول المفكرة وإخماد الأفكار الجديدة التي قد تساعده في الوصول إلى أهدافه بشكل فعلي، هذا العمى الإداري والتشبث بالوهم يؤديان به إلى مزيد من الإخفاقات، حيث تظل إنجازاته الفعلية محدودة ومعزولة عن الواقع الذي يرفض مواجهته.
يُعد العمى الإداري أحد الأنماط النفسية المرضية، حيث يعتقد الشخص أنه لا نظير له وأنه فريد من نوعه في قدراته، يظن أن غيابه أو استبداله سيؤدي حتمًا إلى مزيد من الإخفاقات، وأن الأعمال والإنجازات التي يقوم بها لا يمكن لأي شخص آخر إنجازها، هذه العقلية تعزز الشعور بالفردية المتضخمة وتؤدي إلى حالات نفسية مرضية، حيث يتوهم الشخص أنه الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، مما يمنعه من رؤية الواقع كما هو ومن الاستفادة من قدرات الآخرين، فالأفراد الذين يعانون من العمى الإداري غالبًا ما يتسمون بالغرور والنرجسية، حيث يملكون شعورًا مفرطًا بأهمية ذواتهم، يعتقدون أن مهاراتهم ومعرفتهم فريدة ولا يمكن الاستغناء عنها، هذا الشعور بالتفوق يجعلهم يرفضون النقد البناء ويتجاهلون آراء الآخرين.
إن الانغماس في الأوهام وعدم الاستماع للرأي الآخر يشكل تحديًا للقائد الذي يتسم بالغرور والتفوق الذاتي، والاعتقاد بأن قدراته وإمكانياته فريدة ولا يمكن لأي شخص آخر مضاهاتها، وهذا التفكير النرجسي غالبًا ما تترافق مع صعوبة في تقبل النقد والبناء، وعدم الاعتراف بمساهمات الآخرين، والنظرة الوجودية للبقاء الأبدي، ومحاربة الكفاءات، وجعل المؤسسة معدومة من الصف القيادي الثاني، من أجل البقاء الوجودي، هذا النوع من القيادة يؤدي إلى تحجيم الابتكار والتطور، حيث يتم تهميش الأفكار الجديدة والمبادرات البناءة التي قد تسهم في تحقيق الأهداف المؤسسية، وينجم عن هذا النهج بيئة عمل هادمة تفتقر إلى التعاون والدعم، مما يعوق تقدم المؤسسة ويحد من إمكانياتها الحقيقية.
تعيش هذه النوعية من القيادات في مختلف المستويات الإدارية في وهمٍ يضر بالعمل المؤسسي، حيث يُصرّون على وجهات نظرهم دون النظر إلى آراء الآخرين، هذا التصرف يؤدي إلى تبديد الموارد المادية والبشرية دون تحقيق تقدم ملموس في الأهداف المؤسسية، مما يتسبب في خسائر كبيرة قد تكون صعبة التعويض في المستقبل، إن هذا السلوك النرجسي والمتشبث بالأوهام يعوق النمو والتطور، ويعرقل استثمار الطاقات والموارد بشكل فعّال، مما يجعل المؤسسات تعاني من ركود وفقدان للابتكار والإبداع الضروريين لتحقيق النجاح المستدام.