23 يوليو.. يوم ولادة عمان المعاصرة

لا شك أن الأمم والشعوب تمر عبر تاريخها بالعديد من الأحداث التي تشكل نقاط تحول وتقاطعات هامة. تبرز بعض هذه الأحداث كأيام تاريخية نظرًا للأثر العميق الذي تتركه من تطورات وتغييرات في مسيرة هذه الشعوب، الناتجة عن تفاعل الإنسان مع مختلف الأحداث. في تاريخنا العربي والإسلامي، ما نزال نذكر أيامًا مثل داحس والغبراء، وأيامًا مجيدة كيوم بدر واحد، والقادسية، وعين جالوت وغيرها. وفي سلطنة عمان، لا يختلف الأمر، حيث يمتلك تاريخها العريق رصيدًا كبيرًا من الأيام التاريخية. يمثل إحياء هذه الأيام فرصة للأجيال المعاصرة للتعرف عليها، تدارسها وفهمها، لتكون نبراسًا لهم في بناء مستقبلهم، مستلهمين من قوة الآباء والأجداد دافعًا للبناء. كما يعزز هذا الإحياء مبادئ الولاء والانتماء، مما يقوي الهوية الوطنية.

ومن هذه الأيام المجيدة يوم الثالث والعشرين من يوليو، والذي كان نقطة الانطلاقة لسلطنة عمان الحديثة والمعاصرة. ففي هذا اليوم انطلقت النهضة العمانية الحديثة على يد السلطان قابوس بن سعيد – طيب الله ثراه – في عام 1970م. هذا اليوم الذي كان نقطة التحول التاريخية في عمان والتي كانت تعيش في العقود الأخيرة من القرن العشرين في ظلام في كافة مناحي الحياة، ولهذا جاء الخطاب الأول مطمئنًا وموجهًا لرؤية القيادة الجديدة، موضحًا فيها – طيب الله ثراه – الهدف من إحداث التغيير السياسي في البلاد، التي كانت بالإضافة لتخلفها الثقافي والسياسي والحضاري كانت تواجه حربًا ضروسًا في واحدة من أهم مناطقها.

 جاء الخطاب الأول بسيطًا في أفكاره، دقيقًا في مصطلحاته، مباشرًا في أدواته، فبدأ السلطان الشاب “قابوس بن سعيد” – طيب الله ثراه – وعبر أثير الإذاعة من صلالة، مخاطبة عمان قاطبة حتى رأس مسندم بقوله: ” شعبي، أتحدث إليكم كسلطان مسقط وعمان بعد أن خلفتُ والدي يوم 18 جمادى الأولى 1390هـ الموافق 23 يوليو 1970م. كنت ألاحظ بخوف متزايد وسخط شديد عجز والدي عن تولي زمام الأمور.. إن عائلتي وقواتي المسلحة قد تعهدوا لي بالطاعة والإخلاص.. إن السلطان السابق قد غادر السلطنة، وإني أعدكم أول ما أفرضه على نفسي أن أبدأ بأسرع ما يمكن أن أجعل الحكومة عصرية، وأول هدفي أن أزيل الأوامر غير الضرورية التي ترزحون تحت وطأتها.”  كان السلطان الشاب الجديد يقول لشعبه: إني أعرف ما تعانونه وعانيتم منه، فقد عشتُ وعايشتُ ما مررتم به، وأنا وعائلتي منكم ومعكم في ذات السياق.

    إن خطاب الطمأنينة كان مهمًا جدًا في هذه المرحلة الانتقالية، ليأتي مباشرة بعد انتقال السلطة، فانتقل من صلالة بتاريخ 23 يوليو لكل لعمان قاطبة، مؤكدًا أن الأخبار التي انتشرت صحيحة. في خطاب بدأه بقوله: ” شعبي ” لفظ لم يعهده العُماني طوال سنينه السابقة، من رجل يضع نفسه قدوة لأمة بأكملها، توجست خيفةً مدى مصداقية التغيير وأخباره في البداية.

يرتفع مستوى الطمأنينة وترسيخ الولاء للوطن، مستعرضًا معارفه التاريخية ببلاده، مفخرته التي جعلته يقدم وعدًا بأن أمجاد عمان ستعود، السلطان الأب يرسل كفه لشعبه ليبايعه للمضي قدمًا نحو البناء والتغيير، فيخاطبهم مرة أخرى بلغة أبوية حانية قائلا لهم: ” الشعب سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل.. وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب. كان وطننا في الماضي ذَا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون، فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي، وإني متخذ الخطوات القانونية لتلقي الاعتراف من الدول الخارجية الصديقة، وإني أتطلع إلى التأييد العاجل والتعاون الودي مع جميع الشعوب وخصوصًا مع جيراننا، وأن يكون مفعوله لزمن طويل والتشاور فيما بيننا لمستقبل منطقتنا”.

جاءت هذه الكلمات لتتواءم وأحلام الشباب العماني، الذي كان كلما مرَّ في طرقات اغترابه وشهد تقدم الأمم والشعوب، يتراءى له وطنه ومعاناته وغياب حقوقه البسيطة، كالتعليم والصحة والطرق الحديثة والحياة الكريمة، فيتلقى العمانيون خارج أسوار الوطن دعوة قيادته الشابة الواعية الجديدة بالأمل والعزم على مساندته لبناء عمان التي يحبون.

يستمر الخطاب السياسي في إرسال رسائل الطمأنينة لغير العمانيين، فسماهم الأصدقاء ليقول في سطر واحد:” أصدقائي….، إني أستحثكم الاستمرار في معيشتكم المعتادة، وإني سأصل إلى مسقط خلال الأيام القليلة القادمة وهدفي الرئيسي ما سأخبركم به”. في خطابه الموجز يختمه السلطان الجديد كما بدأه، بمخاطبة الأمة العمانية بذات العبارة “ شعبي” بوعد أطلقه السلطان – طيب الله ثراه – على نفسه والحكومة التي ستتابع الأمر معه، فيقول لهم:

شعبيإني وحكومتي الجديدة نهدف لإنجاز هدفنا العام.. شعبي وإخوتي.. كان بالأمس ظلامٌ ولكن بعون الله غدًا سيشرق الفجر على مسقط وعمان وعلى أهلها. حفظنا الله وكلل مسعانا بالنجاح والتوفيق.”

    مسيرة نهضة شهد لها البعيد قبل القريب، مضت لخمسين عامًا، من صلالة عروس الجنوب لعمان قاطبة، وانطلق السلطان – طيب الله ثراه – بعد ترسيخ أمره من ظفار إلى العاصمة العتيقة في الشمال، ليستقبله أبناء شعبه في مسقط العامرة، لينطلق من هناك مشروع سلطنة عمان الحديثة والمعاصرة، معززًا السلطان قابوس – طيب الله ثراه – مبادئ الدولة المدنية وقيم المواطنة السامية التي جعلت من العمانيين يعودون لبلدهم ليعمروها، ويعيدوا لها أمجادها كما وعدهم قائدهم الشاب، فأصدق الوعد وأصدقوه البيعة والولاء.

وإننا وإذ نستذكر يوم النهضة العمانية ال23 من يوليو كيوم تاريخي فارقٍ في تاريخ عمان الحديث، فإننا نسأل الله الرحمة والمغفرة لباني عمان الحديثة، وأن يسكنه فسيح جناته ونشهد الله أنه وعدنا وأصدق الوعد، ورفع شأن عمان وأهلها واستعادت مجدها ومكانتها بين الأمم والشعوب، بعد سنين من العزلة السياسية والحرمان من حقوق المواطنة، وليذكرنا هذا اليوم أن نكون الأبناء الراعين لمسيرة هذه النهضة والمقدرين لتلك التضحيات، ملتزمين مسيرة الولاء لعمان وسلطانها الهمام جلالة السلطان هيثم بن طارق – حفظه الله ورعاه – الذي أكد على المبادئ والقيم الوطنية ذاتها، لتكون النهضة المتجددة مرحلة انطلاقة أخرى لعمان الحاضر والمستقبل، رافعين راية هذا البلد عالية خفاقة، كلٌّ في موقعه ووفق إمكاناته، في عالم مليء يموج بتياراته الغريبة، حيث أصبحت المعرفة تنتقل بلمح البصر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية العابرة للحدود والمسافات، والتي يهدف بعضها لنشر الفوضى عبر نشر سمومها هنا وهناك، ولهذا يبقى إحياء التاريخ عبر أيامه المجيدة قاعدة راسخة للأجيال؛ للعودة لجذورها ومبادئها العتيقة كالشجرة المعمرة التي تقف شامخة في وجه الرياح العاصفة أيًا كان مصدرها.

د. بدرية بنت محمد النبهانية

باحثة ومحاضرة في التاريخ/مدريرة تحرير مجلة إشراق العمانية/ نائب رئيس لجنة كتاب وأدباء الداخلية/ عضو مجلس إدارة الجمعية التاريخية العمانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *