التعليم في مواجهة الفوضى الرقمية
نحن نعيش في عالم يتغير باستمرار وبسرعة كبيرة، فالتحولات الرقمية التي طرأت على مختلف جوانب الحياة جعلت من الذكاء الاصطناعي واحدًا من أبرز إنجازات الإنسانية، بهدف تسهيل الحياة البشرية ووضع التقنية في خدمة الإنسان لزيادة ذكائه وتعزيز تعاونه مع الآلة في مجالات الحياة والتعلم والعمل. هذه التغيرات أحدثت نقلة حضارية كبيرة ورفعت من مستوى الحياة البشرية، ومن المتوقع أن تستمر هذه العملية خلال السنوات الثلاث المقبلة لتشمل كافة احتياجات الإنسان، بالاستناد إلى التقنية الحديثة المبنية على الذكاء الاصطناعي، ولكن هذه التقنية أيضًا أدت إلى إنتاج كمية هائلة من البيانات والمعلومات والتكنولوجيات الرقمية التي قد تسبب فوضى رقمية وتستغل بطرق سلبية تهدد حياة واستقرار المجتمعات الإنسانية.
فوسائل الإعلام الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعي أصبحت وسائل فعالة لنقل البيانات والمعلومات، بما في ذلك الأخبار والأحداث والقيم والمبادئ، التي تؤثر مباشرة على حياة المجتمعات وثوابتها الوطنية، خصوصاً فيما يتعلق بالهوية الوطنية والقيم الدينية والمجتمعية. هذه التحولات تستهدف عقول الشباب وتغذيهم بمعلومات متضاربة ومغرية، مما يخلق فجوة بين العالم الرقمي والعالم الواقعي، من حيث المعرفة والمهارات والقيم؛ مما أحدث فجوة تسبب العديد من المشكلات المجتمعية التي تنعكس على الإنتاج الفكري والمعرفي، وتثبط من روح التفكير الناقد والابتكاري لدى الشباب، وتجعلهم ينشغلون بالأمور السطحية والزائفة، هذا يؤدي إلى إنتاج جيل من الشباب غير قادر على التكيف مع المجتمعات التي ينتمون إليها، ويشعرون بالضياع والانفصال عن ثقافتهم وقيمهم، مما استدعى تحذير المفكرين من خطورة هذه الظاهرة.
وقد خرجت العديد من الدراسات البحثية والنتائج التي تؤكد خطورة الأمر نتيجة الاستخدام السلبي للتقنية وبصورة غير مقننة، فأسهمت في العديد من الإشكاليات التي زادت من نسبة الانتهاكات الأمنية والخصوصية وسرقة البيانات والابتزاز الإلكتروني ورفعت من مستوى الاحتيال الرقمي، وأثر على الحقوق الإنسانية والديمقراطية والسلام وأنماط التسامح الإنساني، فزاد من خطاب الكراهية وانتشرت المعلومات المظللة والأخبار الزائفة، وفقاً لدراسة أجراها [MIT]، فإن المعلومات الخاطئة تنتشر بسرعة أكبر بنسبة 70% من المعلومات الصحيحة على تويتر، ووفقاً لتقرير صادر عن IBM، فإن التكلفة المتوسطة لخسارة البيانات بسبب الهجمات الإلكترونية بلغت 3.86 مليون دولار في عام 2020. وأكدت دراسة أجرتها شركة McAfee، على أن 25% من الموظفين يقضون ساعة أو أكثر يومياً في التعامل مع البريد الإلكتروني غير المهم أو المزعج، مما يؤدي إلى خسارة 650 ساعة عمل سنوياً لكل موظف.
لم تقتصر آثار الفوضى الرقمية على مستوى الإنتاجية والكفاءة في العمل والتعليم، بل امتدت إلى مستوى القيم والعلاقات الإنسانية في المجتمع. فقد أدت هذه الفوضى إلى ترهل الأخلاق وتضعيف الروابط الاجتماعية بين الأفراد والجماعات، وإلى تشويه الصورة الإيجابية للمجتمع والحضارة العربية، وإلى تغيب الهوية الوطنية والانتماء للأوطان، وإلى التأثير على العقيدة الإسلامية من خلال نشر الفكر المنحرف عن الحقيقة. كل هذه الآثار ساهمت في خلخلة التفكير المنطقي والنقدي لدى الشباب العربي، وأدت إلى غياب أو ضعف الرادع الديني والاجتماعي تجاه التصرفات والسلوكيات الخاطئة.
ومن أشكال هذه الفوضى هو تداول المعلومات المغلوطة أو المزورة أو المخالفة للحقائق، وانتهاك خصوصية المستخدمين أو حقوقهم المعنوية أو المادية، وانحراف بعض المستخدمين عن قيمهم وثقافتهم ودينهم، وانغلاق بعض المستخدمين على أنفسهم أو على جماعات محدودة أو متطرفة. ولحل هذه المشكلة يجب على جميع المسؤولين والفاعلين في المجتمع تحمل دورهم في مكافحة هذه الظاهرة. فعلى الحكومات والجهات المختصة تطبيق قوانين صارمة لضبط استخدام التكنولوجيا، وعلى المؤسسات التعليمية والإعلامية تثقيف المستخدمين بأخلاقيات استخدام التكنولوجيا، وعلى الأسر والأفراد تحصين أنفسهم بالقيم والثقافة والدين، وعلى كل مستخدم أن يكون حذراً وحكيماً في استخدام التكنولوجيا، وأن يتحلى بالمسؤولية والاحترام تجاه الآخرين.
في كل هذه الفوضى التي أحدثت التحولات الرقمية كان لابد من العودة إلى المدرسة، تلك المؤسسة التي تراهن عليها المجتمعات في معالجة القضايا والإشكاليات المجتمعية التي برزت نتيجة التحول والتطور البشري في ظل الثورة الصناعية الرابعة. فلا يمكن أن نعفي المدرسة من القيام بدورها في التربية والتعليم وتضمين مبادئ المواطنة والقيم الدينية والاجتماعية في المنهاج الدراسية، وتطوير مهارات المعلمين في ظل الثورة الصناعية الرابعة وما تتطلبه من مهارات وقدرات وقيم واتجاهات تغرس في نفوس النشء “من أجل أن تكون لهم سياجا يحميهم من التردي في مهاوي الأفكار الدخيلة”. لذا فإن مواكبة الحداثة وكل ما يتعلق بنواتج ذلك التعاون من إيجابيات وسلبيات، يتطلب تطوير التعليم من خلال عدة مسارات ترتبط بتطوير المناهج الدراسية للتوافق مع التطور التقني بحيث يتم تضمين القيم الدينية والمجتمعية والاهتمام بالبناء الفكري للطلبة من خلال التركيز على مهارات التفكير العليا وحل المشكلات وتعزيز الابتكار، والتعاون، والتواصل الإيجابي بين الطلبة في ظل بيئات تعليمية فاعلة وقائمة على التقنية الحديثة، وتحسين جودة التعليم ومنح الطلبة مزيداً من فرص التعلم الحديثة، والعمل على تطوير مهارات المعلمين وتنمية قدراتهم على التربية على المواطنة، وتعزيز التعلم مدى الحياة، والاهتمام بالتطور المهني للمعلمين والمتعلمين، والاستفادة من الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية.
فاصبح لازما على التعليم أن يقوم بدور فاعل وأساسي في مواجهة التحولات الرقمية والتكيف مع الثورة الصناعية الرابعة، والتي تتطلب منا تغيير نظرتنا للتعليم والتعلم، والانفتاح على التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي، والاستفادة منها في تحسين جودة التعليم وتنمية مهارات المعلمين والطلبة، وترسيخ القيم الدينية والمجتمعية في نفوس الأجيال القادمة، فالتعليم هو المفتاح لبناء مجتمعات متقدمة ومستقرة وقادرة على المنافسة في عالم متغير بسرعة.